الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} إِلَى قولِهِ: {لَأَعْنَتَكُمْ} ؛ لأَحْرَجَكُمْ وضَيَّقَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّهُ وَسَّعَ وَيَسَّرَ، فَقَالَ:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6](1).
وقال بهذا المعنى وأنَّ الآيةَ المحذِّرةَ من مالِ اليتيمِ هي آيةُ النِّساءِ جماعةٌ؛ كالشَّعْبيِّ وعَطَاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ (2).
والمشهورُ: أنَّ النِّساءَ نزَلَتْ بعدَ البقرةِ، ولعلَّ الآيةَ المحذِّرةَ مِن قُرْبِ مالِ اليتيمِ والتشديدَ في ذلك قولُهُ تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152].
فقد روى ابنُ جريرٍ، عن سعيدِ بن جُبَيْرٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ؛ قال: لمَّا نَزَلَتْ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] عزَلُوا أموالَ اليتامى، فذكَرُوا ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنزَلَتْ:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} ، فخَالَطُوهم (3).
وقال: بأنَّ الآيةَ المحذِّرةَ التي لِأَجْلِها نزَلَتْ آيةُ البابِ هي قولُهُ تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] جماعةٌ مِن السَّلَفِ؛ كابنِ أبي ليلى، وسعدٍ، وقتادةَ، والرَّبِيعِ (4).
التشديدُ في مالِ اليتيمِ:
وقيل: إنَّ الجَاهِلِينَ مِن العَرَبِ كانوا يعظِّمونَ أمرَ اليتيمِ حتَّى في جاهِليَّتِهم، ويَحترِزونَ منه احترازًا يُضِرُّ باليتيمِ ويَمنَعُه مِن الانتِفاعِ بمالِهِ وتنميتِهِ؛ روى أسباطٌ، عنِ السُّدِّيِّ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ، قال: كانتِ
(1)"تفسير الطبري"(3/ 702)، و"تفسير ابن المنذر"(2/ 586).
(2)
"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 878).
(3)
"تفسير الطبري"(3/ 698).
(4)
"تفسير الطبري"(3/ 699 - 700).
العربُ يُشَدِّدونَ في اليتِيمِ حتَّى لا يَأكُلُوا معه في قَصْعةٍ واحدةٍ، ولا يَرْكَبُوا له بعيرًا، ولا يَستَخدِمُوا له خادِمًا، فجاؤوا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَألُوه عنه؟ فقال:{قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} ؛ يُصلِحُ له مالَهُ وأَمْرَهُ له خيرٌ، وإنْ يُخالِطْهُ فيأكُلْ معه ويُطعِمْهُ ويَرْكَبْ رَاحِلَتَهُ ويَحمِلْهُ، ويَستخدِمْ خَادِمَهُ ويَخْدُمْهُ، فهو أَجْودُ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (1).
ورواهُ العَوْفِيُّ عنِ ابنِ عبَّاسٍ بنحوِه (2).
ورُوِيَ عنِ الضَّحَّاكِ كذلك (3).
ولعلَّ العرَبَ لم يكونوا على حالٍ واحدةٍ؛ ففيهِمُ المتساهِلُ، وهم الأكثرُ، وفيهِمُ المتشدِّدُ على نَفْسِهِ وعلى اليتيمِ بما يَضُرُّه ويَضُرُّ اليتيمَ، وهم قِلَّةٌ، وكِلا الحالَيْنِ بحاجةٍ إلى بيانٍ.
وقد بَيَّنَ اللهُ حالَ مُخالَطتِهم كمُخالطَةِ الإخوةِ بلا حَرَجِ؛ {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} ؛ فعن ابن وهبٍ؛ قال: قال ابنُ زَيْدٍ: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} ، قال:"قد يُخالِطُ الرَّجُلُ أخَاهُ"(4).
ومُخالَطةُ الإخوةِ فيها مِن المُسامَحةِ والمَوَدَّةِ التي لا يُحِبُّ الإنسانُ معها أنْ يُضِرَّ بمالِ أخيه كمالِهِ؛ كما في الحديث: (لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)(5)، فهو يُحِبُّ في مالِهِ الحفظَ، ويَرضى فيه المسامَحَةَ، وعلامةُ صدقِ الإنسانِ في ذلك: نِيَّتُهُ الحَسَنةُ؛ ولذا قال اللهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ؛ يَعني: مَن بَيَّتَ إصلاحَ المالِ وحِفظَهُ بمسامَحةٍ، ومَن بَيَّتَ إفسادَه وجعَلَ المسامَحةَ في الخُلْطةِ بابًا للتزيُّدِ والتكثُّرِ والتربُّصِ بمالِ اليتيمِ.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 703).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 704).
(3)
"تفسير الطبري"(3/ 704).
(4)
"تفسير الطبري"(3/ 705).
(5)
أخرجه البخاري (13)(1/ 12) ومسلم (45)(1/ 67)؛ من حديث أَنَسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه.
وقد روى حَمَّادٌ، عنْ إبراهيمَ، عن عائشةَ؛ قالتْ:"إنِّي لأَكْرَهُ أنْ يَكونَ مالُ اليتيمِ عندي عُرَّةً، حتَّى أَخْلِطَ طعامَهُ بطَعَامي، وشَرابَه بشَرابي".
وعن أبي مِسكينٍ، عن إبراهيمَ؛ قال:"إنِّي لَأَكْرَهُ أنْ يَكُونَ مالُ اليتيمِ كالعُرَّةِ".
رَواهُما ابنُ جريرٍ (1).
وكالعُرَّةِ؛ يَعني: كالقَذَرِ؛ يَأنَف الإنسان مِن قُرْبِهِ ومِنْ مماسَّتِهِ.
واللهُ أرادَ حَثَّ الناسِ على خُلْطةِ اليتيمِ مع حُسْنِ قصدٍ؛ دفعًا للمشقَّةِ والحَرَجِ لكافِلِ اليتيمِ؛ مِن أن يتكلَّفَ الحسابَ، وربَّما دَفَعَهُ ذلك إلى الوَسْوَسةِ، وربَّما حَمَلَهُ على تركِ مالِ اليتيمِ والزُّهْدِ في تنميتِهِ، فيُضِرُّ ذلك باليتيمِ.
أثرُ النِّيَّةِ في التعاملِ مع مال اليتيمِ:
وقولُه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} .
فيه: أثرُ النِّيَّةِ والقصدِ على العملِ، واللهُ رجَعَ الناسَ إلى صالِحِ نِيَّاتِهم وفاسِدِها، وعليها يُحاكَمُونَ، وأنَّ القصدَ يؤثِّرُ في حُكْمِ أَخْذِ مالِ اليتيمِ؛ فقاصِدُ السُّوءِ يتحيَّنُ الأخذَ ويستكثِرُ، وقاصِدُ الخيرِ لا يتحيَّنُ ويقلِّلُ؛ فأرادَ اللهُ مِن الناسِ إصلاحَ المقاصِدِ؛ لتؤثِّرَ على التوازنِ في العملِ، الذي لا يشعُرُ صاحِبُهُ باختلالِهِ إلَّا بشعورِه بحقيقةِ قصدِهِ ونِيَّتِهِ.
والنِّيَّةُ هي مدارُ الثوابِ والعقابِ، وإنِ اختلَفَ العملُ الظاهِرُ؛ فاللهُ لا يجازِي قاصِدَ الخيرِ الذي أضَرَّ بمالِ اليتيمِ بحُسْنِ قصدٍ ضَرَرًا عظيمًا إلَّا خيرًا؛ لقَصْدِهِ الحَسَنِ، ويجازِي قاصِدَ الشرِّ الذي أَضَرَّ بمالِ اليتيمِ ضَرَرًا يسيرًا بالإثمِ؛ لقصدِه السُّوء.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 705).