الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذلك لفعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعدَمِ مخالفتِه له في عُمَرِهِ وحجَّتِه، وإن بدَأَ مِن المَرْوةِ، لم يَعْتَدَّ بالشوطِ الأولِ، ويحسُبُ مِن أولِ وقوفِهِ على الصَّفا.
وقال ابنُ المنذِرِ: "أجمَعَ كلُّ مَن نحفَظُ عليه مِن أهلِ العلمِ: أنَّ مَن فرَغَ مِن طوافِهِ ومِن صلاتِهِ، بدَأَ عندَ خروجِهِ مِن المسجدِ بالصَّفا، وأنَّه ختَمَ بالمَرْوةِ، وأنَّ مَن فعَل ذلك، فهو مصيبٌ للسُّنَّةِ، واختلَفُوا فيمَن بدَأَ بالمروةِ قلَ الصَّفا"(1).
وروى الطحاويُّ، عن عطاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ، قال:"مَنْ بدَأَ بالمَرْوةِ قبلَ الصَّفا، لم يضُرَّهُ ذلك"(2).
وقال به بعضُ الفقهاءِ مِن الحنفيَّةِ، وهو روايةٌ عن أبي حنيفةَ، والحنفيَّةُ يتسامَحُونَ في الترتيبِ في العباداتِ؛ كالطوافِ والسعيِ والجمارِ (3).
ورُوِيَ عن عطاءٍ خلافُهُ؛ رواهُ ابنُ عبدِ البرِّ في "التمهيدِ"، وابنُ المنذِرِ، ولعلَّ ترخيصَهُ إنما هو للجاهلِ والناسي، وقد رُوِيَ عنه: أنَّه قيَّدَهُ بذلك؛ روى الوجهَيْنِ عنه ابنُ عبدِ البرِّ (4).
* * *
قال اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].
الأصلُ في الأشياءِ الحِلُّ:
هذا خطابٌ مِن اللهِ للناسِ كافَّةً؛ لبيانِ أنَّ الأصلَ فيما أوجَدَهُ اللهُ
(1)"الإشراف" لابن المنذر (3/ 293 - 294).
(2)
"مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (2/ 183).
(3)
ينظر: "بدائع الصنائع"(2/ 134)
(4)
ينظر: "التمهيد"(2/ 88).
في الأرضِ مِن مأكولاتٍ: الحِلُّ، ويظهرُ العمومُ في قوله:{مِمَّا فِي الْأَرْضِ} بلا تخصيصٍ أو تقييدٍ، و"مِن" في الآيةِ: لتبعيضِ المأكولِ المقدورِ على أكلِه، لا لتبعيضِ الأكلِ المباحِ كلِّه؛ فالإنسانُ لا يستطيعُ أَكْلَ كلِّ ما في الأرضِ.
والإباحةُ أُخِذَتْ مِن قولِه: {كُلُوا} ؛ لأنَّ الأمرَ لا يكونُ إلا على شيءٍ مباحٍ ومشروعٍ، ولا يأمُرُ الشارعُ بشيءٍ يخرُجُ عن هذا، ولكنَّه أكَّدَ الإباحةَ بمؤكِّداتٍ؛ منها قولُه:{حَلَالًا} ، وهو إيضاحٌ لسببِ الأمرِ بالأكلِ؛ أيْ: لكونِه حلالًا.
وزاد في بيانِ الحِلِّيَّةِ بوصفِهِ بالطيِّبِ، والطيِّبُ ما تستطيبُهُ النفوسُ المستقيمةُ المعتدِلةُ، وليس الشاذَّةَ، وبعضُ النفوسِ فد يطرَأُ عليها تبديلٌ للفِطْرةِ، وهذه غيرُ معتَبرةٍ.
ووصفُ الطيِّبِ للمأكولِ المباحِ علَمٌ يُعرَفُ به، ويُكْتَفَى به عدَ إرادةِ بيانِه؛ قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، وقال:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5].
والنفوسُ بجميعِ مِلَلِها مؤمنِةً وكافِرةً، مفطورةٌ على استطابةِ الطَّيِّب واستخباثِ الخبيثِ؛ ولهذا جاء الخطابُ لبَنِي آدمَ كافَّةً:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الإسراء: 70]، وكلُّ أمَّةٍ يخاطِبُها اللهُ بالأكلِ يكتفِي بوصفِه بالطيِّبِ؛ قال تعالى عن بني إسرائيلَ:{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57].
إلا أنَّه يطرأُ على بعضِ نفوسِ بني آدمَ تبديلٌ؛ كما يطرأُ عليها تبديلُ في معبودِها؛ كما في الحديثِ في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ أبي هريرةَ؛ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ
تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ! )، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. . .} [الروم: 30] الآيَةَ (1).
وقد وَجَّهَ اللهُ خطابَهُ للناسِ كافَّةً بإباحةِ كلِّ ما في الأرضِ واصفًا إيَّاهُ بالطَّيِّبِ؛ لإدراكِهِمْ جميعًا لمعناهُ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} ، والنفوسُ هي التي يقعُ منها التبديلُ؛ لهوًى أو مسخٍ؛ قال تعالى:{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2].
ولاستواءِ النفوسِ في إدراكِ الطيِّبِ مِن المأكلِ؛ وَجَّهَ سبحانه الخطابَ بالصيغة نفسِها حتى للرُّسُلِ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51].
والوصفُ بالطيِّب دليلُ امتنانٍ، والامتنانُ مِن قرائنِ الإباحةِ، والقرينةُ لا يُحتاجُ إليها إلا عندَ فقْدِ النصِّ الصريحِ، ولكنَّه ذكَرَها هنا؛ إشعارًا بأنَّ الإباحةَ هنا ليستْ لمباحٍ تستوي جهاتُهُ فتوسَّطَ بين التحريمِ والوجوبِ، ولكنَّه لمباحٍ فوقَ ذلك يستوجِبُ شكرًا للهِ.
ويُؤخذ مِن هذه الآيةِ: أنَّ مِن علاماتِ ما لم يُستَثْنَ مِن أصلِ الحِلِّ: ما عرَفَتْهُ النفسُ بالطيِّبِ، ولم يُسْتخبَثْ؛ كما في قولِه تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
وإذا اختلَطَ على النفسِ معرفةُ الطيِّبِ من الخبيثِ لانتكاسةِ الفِطَرِ، فيُرجَعُ إلى عمومِ النصِّ؛ لأنَّ العمومَ هنا أقوَى؛ فمضمونُ العموم الإباحةُ، وأمَّا الاستخباثُ، فمخصِّصٌ للعمومِ، وإذا ضَعُفَ إعمالُ المخصِّصِ، بقِي اللفظُ على عمومِه.
فالإباحةُ دُلَّ عليها بالنداءِ لعمومِ الناسِ، وبقولِه:{كُلُوا} ، وبقولِه:{حَلَالًا طَيِّبًا} ، وبالاستثناءِ مِن العامِّ:{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ؛
(1) أخرجه البخاري (1359)(2/ 95)، ومسلم (2658)(4/ 2047).