الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى هذا القولِ؛ فلا يجوزُ الانتفاعُ بالقَرْنِ والنابِ، والأظلافِ وريشِ الطيورِ؛ لأنَّه يَتَّصِلُ بها وله حَيَاةٌ؛ وذلك لأنَّ ظاهرَ الآيةِ خُبْثُ اللحمِ وتحريمُهُ، ويلحَقُ به حكمًا ما اتَّصَلَ به.
القولُ الثاني: يحرُمُ الانتفاعُ بكلِّ أجزاءِ الميتةِ؛ وهذا قولُ الشافعيِّ، وشدَّدَ أبو حنيفةَ، ومنَعَ مِن الانتفاعِ بها مِن جميعِ الوجوهِ، حتى بإطعامِها الكلابَ والطيورَ ونحوَها (1).
وروى عبدُ الرزَّاقِ، عن ابنِ جُرَيْجٍ: سألَ إنسانٌ عطاءً عن صُوفِ المَيْتةِ، فكَرِهَهُ، وقال:"إنِّي لم أسمعْ أنَّه يرخَّصُ إلا في إهابِها؛ إذا دُبِغَ"(2)؛ وهو صحيحٌ.
والحُجَّةُ في ذلك: عمومُ التحريمِ في الآيةِ في قولِه: {حَرَّمَ عَلَيْكُمُ} ، وعمومُ التحريمِ في الآيةِ منصرِفٌ إلى محلِّ التحريم؛ وهو الأكلُ قليلُهُ وكثيرُهُ، ويَظْهَرُ ذلك فيما قبلَها في الآيةِ، قال:{كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 168]، ثمَّ بيَّنَ المحرَّمَ ممَّا يُؤكَلُ، والآياتُ في سياقِ بيانِ المطعوماتِ، لا عمومِ المنافعِ، والمتأمِّلُ لها يَرَى هذا ظاهرًا في قولِهِ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]، ثمَّ قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثمَّ قال:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} .
حكمُ جلدِ الميْتة إذا دُبغَ وإذا لم يُدْبَغْ:
وأمَّا جِلْدُ المَيْتةِ: فعامَّةُ العلماءِ على عدمِ طهارتِهِ بلا دِبَاغٍ، وما جاء عن الزُّهْريِّ فيما رواهُ عبدُ الرزَّاقِ، عن مَعْمَرٍ: كان الزهريُّ يُنكِرُ الدباغَ، ويقولُ:"يُستمتَعُ به على كلِّ حالٍ"(3) فلعلَّه أرادَ دِبَاغَ جلودِ الحيةِ لا الميتةِ.
(1) ينظر: "الفتاوى الهندية"(5/ 344).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(207)(1/ 67).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(185)(1/ 62).
ولكنْ يُشكِلُ على هذا: أنَّ عبدَ الرزَّاقِ وضَع قولَهُ هذا في "بابِ جلودِ المَيْتةِ إذا دُبِغَتْ"، وقد يؤيِّدُ أنَّ مُرادَهُ جلودُ الميتةِ لا الحيةِ: ما رواهُ ابنُ المنذِرِ؛ مِن حديثِ الوليدِ بنِ الوليدِ الدِّمَشْقيِّ، عن الأوزاعيِّ، عن الزُّهْريِّ؛ قال:"دِبَاغُهَا - يعني: الجلودَ - طَهُورُهَا"(1).
وأمَّا إذا دُبِغَ جِلْدُ الميتةِ، فقد اختلَفَ العلماءُ في طهارتِه وجوازِ استعمالِه على أقوالٍ:
الأولُ: لا يجوزُ؛ وهو قولُ أحمدَ.
وكرِهتْ عائشةُ جلودَ الميتةِ ولو دُبِغتْ؛ روى عبدُ الرزَّاقِ، عن نافعٍ، عن القاسمِ بنِ محمدِ بنِ أبي بكرٍ؛ أنَّ محمدَ بنَ الأشعثِ كلَّمَ عائشةَ في أنْ يَتَّخِذَ لها لِحَافًا مِن الفِرَاءِ، فقالتْ: إنَّه مَيْتةٌ، ولستُ بلابسةٍ شيئًا مِن المَيْتةِ، قال: فنحنُ نصنعُ لكِ لِحَافًا يُدْبَغُ، وكرِهتْ أنْ تلبَسَ مِن الميتةِ (2).
وروى ابنُ المنذرِ، عن الأشعثِ، عن محمَّدٍ؛ قال:"كان ممَّن يَكْرَهُ الصلاةَ في الجِلْدِ إذا لم يكنْ ذَكِيًّا: عمرُ، وابنُهُ، وعائشةُ، وعِمْرانُ بنُ حُصَيْنٍ، وابنُ جابرٍ"(3).
واختصَرَ أحمدُ القولَ في المسألةِ، فلم يجعَل للجِلْدِ حُكْمًا مستقِلًّا؛ فقال:"حكمُهُ حكمُ اللحمِ حيًّا وميتًا، ولحمُ الميتةِ لا يُباحُ أكلُهُ وإنْ عُولِجَ بكلِّ علاجِ وطيب، فكذلك جلْدِ الميْتةِ لا يُصلِحُهُ دِبَاغُه".
واحتجَّ أحمدُ على مَنْ قال بجوازِ جِلْدِ المَيْتةِ؛ بأنَّ جلدَ بهيمةِ الأنعامِ ربَّما أكَلَهُ الناسُ، فإذا كانوا لا يُجِيزونَ أكْلَ جِلْدِ المَيْتةِ لأنَّها ميتةٌ، فكيف يُجِيزونَ الانتفاعَ به وهو أخَذَ حُكْمَ اللحمِ أكْلًا؟ ! فوجَبَ أنْ يأخُذَ حُكْمَهُ انتفاعًا (4).
(1) أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 268).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(199)(1/ 65).
(3)
أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(850)(2/ 265).
(4)
"مسائل الإمام أحمد، رواية ابن عبد الله"(1/ 12).
وقد جاء النهيُ عن الانتفاعِ بجميعِ المَيْتةِ، كما في "السُّنَنِ"؛ مِن حديث ابنِ عُكَيْمٍ: أتانا كتابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبلَ وفَاتِهِ بشهرٍ: "أنْ لَا تَنتَفِعُوا مِنَ المَيْتةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ"(1).
والحديثُ معلولٌ، وفي إسنادِه ومتنِهِ اضطرابٌ واختلافٌ.
وابنُ عُكَيْمٍ لم يَسمعْ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئًا؛ قال البخاريُّ في "تاريخِهِ الكبيرِ": "عبدُ اللهِ بنُ عُكَيْمِ أدرَكَ زمانَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرَفُ له سماعٌ صحيحٌ".
وقال بهذا أبو حاتمٍ وأبو زُرْعةَ وغيرُهما (2).
ووصَفَ الحازميُّ الحديثَ بالاضطرابِ في كتابِه "الاعتبارِ"(3).
وعملُ الناسِ به قليلٌ، ولو كان النصُّ ثابتًا في كتابٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظِ والمعنى، الذي أُخِدَ منه منعُ الانتفاعِ مطلقًا، لعمِلَ به الناسُ واستفاضَ.
قال الترمذيُّ، في حديثِ ابنِ عُكَيْمٍ:"وليس العملُ على هذا عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ"(4).
وكان أحمدُ بنُ حنبلٍ يحتجُّ بهذا الحديثِ ثمَّ تَرَكَهُ؛ قال الترمذيُّ: "وسمِعتُ أحمدَ بنَ الحسنِ يقولُ: كان أحمدُ بنُ حنبلٍ يذهبُ إلى هذا الحديثِ؛ لِما ذكرَ فيه: "قبلَ وفاتِهِ بشهرَيْنِ"، وكان يقولُ: كان آخِرَ أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ تركَ أحمدُ بنُ حنبلٍ هذا الحديثَ؛ لمَّا اضطرَبُوا في إسنادِه، حيثْ رَوَى بعضُهم، فقال: "عن عبدِ اللهِ بنِ عُكَيْمٍ، عن أشياخٍ
(1) أخرجه أبو داود (4127)(4/ 67)، والترمذي (1729)(4/ 222)، والنسائي (4249)(7/ 175)، وغيرهم.
(2)
ينظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 39)، و"علل ابن أبي حاتم"(1/ 592).
(3)
ينظر: "الاعتبار، في الناسخ والمنسوخ من الآثار"(1/ 56).
(4)
ينظر: "سنن الترمذي"(4/ 222).
لهم مِن جُهَيْنَةَ" (1).
الثاني: يجوزُ؛ وهو قولُ أبي حَنِيفةَ، والشافعيِّ، والأوزاعيِّ، والليثِ، والثوريِّ، وابنِ المبارَكِ، وإسحاقَ، وهو قولُ فُقَهاءِ السلفِ؛ كعطاء بنِ أبي رَبَاحٍ، والشَّعْبيِّ، والحسنِ، وقتادةَ، والزُّهْريِّ، والنَّخَعيِّ؛ صحَّ القولُ عنهم جميعًا.
وذلك لِمَا رَوَى أحمدُ والبخاريُّ ومسلمٌ، عن ميمونةَ: أنَّه تُصُدِّقَ على مولاةٍ لِمَيْمُونةَ بشاةٍ، فماتتْ، فمرَّ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:(هَلَّا أخَذْتُمْ إِهَابَهَا، فَدَبَغْتُمُوهُ، فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ! )، فقالوا: إنَّها مَيْتةٌ؟ ! فقال: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا)(2)، واللفظُ لمسلمٍ.
وما في "الموطَّإِ"، و"المسندِ"، و"السننِ" - إلا التِّرمِذيَّ - عن عائشةَ رضي الله عنها:"أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَ أنْ يُستمتعَ بجلودِ الميتةِ؛ إذا دُبِغَتْ"(3).
وما في "موطَّإِ مالكٍ"، و"صحيحِ مسلمٍ"، وغيرِهما؛ من حديثِ ابنِ عباسٍ؛ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (إِذَا دُبغَ الْإِهَابُ، فَقَدْ طَهُرَ)(4).
وروى عبدُ الرزَّاقِ، عن ابنِ جُرَيْجٍ؛ قال: قال عطاءٌ: "ما نستمتعُ مِن المَيْتةِ إلا بِجُلُودِها إذا دُبِغَتْ؛ فإنَّ دِبَاغَها طهورُهُ وذَكاتُهُ"(5).
وكَرِهَ عطاءٌ، والحسنُ، والنَّخَعيُّ: بيعَ جلودِ الميتةِ ولو دُبِغَتْ، وجوَّزُوا الانتفاعَ بها (6).
(1) المصدر السابق.
(2)
أخرجه أحمد (26795)(6/ 329)، والبخاري (1492)(2/ 128)، ومسلم (363)(1/ 276).
(3)
أخرجه مالك في "الموطأ"(عبد الباقي)(18)(2/ 498)، وأحمد (24730)(6/ 104)، وأبو داود (4124)(4/ 66)، والنسائي (4252)(7/ 176)، وابن ماجه (3612)(2/ 1194).
(4)
أخرجه مالك في "الموطأ"(عبد الباقي)(17)(2/ 498)، ومسلم (366)(1/ 277).
(5)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(201)(1/ 65).
(6)
ينظر: "مصنف عبد الرزاق"(194، 196، 197)(1/ 64).