الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي الإجماعِ نظرٌ، ولأحمدَ قولٌ بصِحَّتِه؛ لظاهرِ حديثِ عُرْوةَ بنِ مُضَرِّسٍ، ولكنَّ عَمَلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وخلفائِهِ مِن بعدِهِ وعَمَلَ الصحابةِ: أنَّهم لم يكونُوا يَقِفُونَ قبلَ زوالِ الشمسِ بِعَرَفةَ، ولا يُحفَظُ عن واحدٍ منهم أنَّه وقَفَ قبلَ الزوالِ، أو أمَرَ به.
واختُلِفَ فيمَن دفَعَ قبلَ غروبِ الشمسِ:
وجمهورُ العلماءِ على صحةِ وقوفِهِ وحَجِّه.
وذهَبَ مالكٌ: إلى وجوبِ الوقوفِ ليلًا ولو قليلًا بعدَ غروب الشمسِ، ورَأَى على مَن أفاضَ قبلَ الغروبِ الرجوعَ إلى عَرَفةَ، أو إعادَةَ الحجِّ مِن قابِلٍ، مع الدمِ عليه من العامِ القابِلِ.
ومَن صَحَّحُوا الحَجَّ اختَلَفُوا في وجوبِ الدمِ عليه؛ فأَوْجَبَهُ جمهورُهُمْ؛ وهو مرويٌّ عن أبي حنيفةَ والشافعيِّ وَأحمدَ وسُفْيانَ.
واختَلَفَ هؤلاء فيه إذا رجعَ إلى عَرَفَةَ ليلًا فوقَفَ فيها؛ فأَوْجَبَ عليه الدمَ أبو حنيفةَ، ولم يَرَهُ عليه الباقُونَ؛ لأنَّهم يرَوْنَ وقوفَهُ بعدَ رجوعِهِ صحيحًا؛ كما لو كان باقيًا فيها لم يَخْرُجْ منها.
ولا يجبُ للوقوفِ طهارةٌ أو يقظةٌ، فمَن وقَفَ مُحْدِثًا أو مَرَّ بها نائمًا كلَّ الوقوفِ، صحَّ وقوفُه عندَ السلفِ لا يَختَلِفُونَ في ذلك؛ وهو قولُ الأئمَّةِ الأربعةِ.
فضلُ الدعاءِ والذِّكْر بِعرفَة ومزدَلِفة:
وليس في الآيةِ تفضيلُ الذِّكْرِ عندَ المَشْعرَ الحرامِ على الذِّكْرِ بعَرَفةَ؛ فإنَّ الذِّكْرَ والدعاءَ بعرفةَ أفضلُ، ولكنَّ اللهَ أرادَ بيانَ مشروعيَّةِ الإفاضةِ إلى مزدَلِفةَ والوقوفِ عندَها والمبيتِ فيها ذاكِرينَ اللهَ، لا كما يفعلُ أهلُ الجاهليَّةِ مِن تبديلٍ؛ فإنَّ قريشًا لا تَقِفُ بِعَرَفةَ، فكانت تشدِّدُ على نفسِها، ولا تخرُجُ في حجِّها مِن حدودِ الحرمِ، فتقفُ بمزدَلِفةَ ثمَّ تنصرِفُ إلى مِنًى، وكانوا يُسَمُّونَ أنفُسَهمُ الحُمْسَ مِن دونِ العربِ، إلا مَن تَحَمَّسَ
معها وهم قليلٌ، وكانت بقيةُ العربِ تقفُ بِعَرَفةَ وتنصرِفُ قبلَ غروبِ الشمسِ، فَبيَّنَ اللهُ هَدْيَهُ ومناسكَ الحجِّ للنَّاسِ على ما كان عليه الخليلُ إبراهيمُ؛ ولذا قال اللَّهُ:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} ، لا مِن مزدَلِفةَ؛ كما بَدَّلَتْ قريشٌ حيثُ كانت تُفِيضُ منها، ولمَّا ذكَرَ اللهُ الإفاضةَ مِن مزدَلِفةَ بعدَ عَرَفةَ، قال:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ؛ يعني: العرب وقريشًا وغيرَهم، فكانوا كلُّهم يجتمعونَ في مزدَلِفةَ فيُفِيضُونَ منها؛ لأنَّهم لم يكونوا يختلِفونَ في الإفاضةِ من مُزْدَلِفةَ؛ وإنَّما يختلِفونَ في الإفاضةِ مِن عَرَفةَ.
ولا خلافَ أنَّ المشعرَ الحرامَ هو مزدَلِفةُ؛ صَحَّ هذا عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، وابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ، وسعيدِ بن جُبَيْرٍ، وعِكْرِمةَ، والحَسَنِ (1).
وفي قولِهِ: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} : بيانُ فضلِ الذِّكْرِ عندَ تذكُّرِ النِّعَمِ، فمِن شُكْرِ النعمِ ذِكْرُ اللهِ عندَ تذكُّرِها؛ كما أنَّ تذكُّرَ الضلالِ بعدَ الهدايةِ، والجهلِ بعدَ العلمِ: يَكْسِرُ النَّفْسَ للخالقِ، وأنَّ مَن هَدَاها قادرٌ على إزاغتِها، ومَن عَلَّمَها قادرٌ على أنْ يُنْسِيَها.
والمرادُ بالضلالِ في الآيةِ: الجهلُ وعَدَمُ العِلْمِ؛ كقولِهِ تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7].
وبعدَما أمَرَ اللهُ بالإفاضةِ مِن مزدَلِفةَ، أمَرَ بالاستغفارِ:{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ وفيه استحبابُ الاستغفارِ عندَ الانصرافِ مِن مزدَلِفةَ، والاستغفارُ في هذا الوقتِ أفضلُ الأذكارِ؛ فإنَّه يُستحَبُّ إظهارُ الافتقارِ بالاستغفارِ عندَ تمامِ الأعمالِ؛ حتى لا يُورِثَ تمامُ
(1) ينظر: "تفسير الطبري"(3/ 516 - 521)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 353).