الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المراد بـ "حاضري المسجِدِ الحرامِ":
وتنوَّعَ تفسيرُ: {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} في كلامِ السَّلَفِ:
فمِنهم مَن قال: "هم مَن سكَنَ حدودَ الحَرَمِ"؛ قاله مجاهِدٌ (1).
وقال يحيى بنُ سعيدٍ الأنصارِيُّ: "مَن كانَ أهلُهُ على مسيرةِ يَوْمٍ"(2).
ويَظهَرُ مِن الآيةِ ومِن قولِ جمهورِ السَّلَفِ: أنَّهم لا يَختلِفونَ فيمَنْ كان في حدودِ الحَرَمِ؛ وإنَّما يَختلِفونَ فيمَن هو خارِجَها، ومكَّة اليومَ غيرُ مَكَّةَ في الصَّدْرِ الأوَّلِ؛ فقد اتَّسَعَتْ وتَغَيَّرَتْ مَعالِمُها، حتَّى بلَغَ البُنْيانُ متَّصِلًا إلى مَواضِعَ يقصُرُ فيها بعضُ السَّلَفِ الصلاةَ؛ فيَظْهَرُ أنَّ مَن كان دونَ القَصْرِ مِن مَكَّةَ، فهو مِن أهلِها وبهذا قيده أحمد، ومَرَدُّ ذلك إلى العُرْفِ.
التحذيرُ من التساهُلِ في المناسِكِ:
قولُه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، أمَرَ بتَقْواهُ، بعدَ أنْ بيَّنَ حدودَهُ في الحَجِّ؛ حتَّى لا تُخرَمَ تلك الحدودُ، وللتأكيدِ على أهميَّةِ الإتيانِ بها.
ثمَّ جاء تحذيرٌ ووعيدٌ مِن التفريطِ في تلك الحدودِ، وبيانٌ لِخَطَرِ تغييرِها والتساهُلِ بها، وأنَّ ما وضَحَتْ مَعالِمُه مِن حدودِ اللهِ في مَناسِكِ الحجِّ، لا ينبغي لأحدٍ أن يتساهَلَ فيه؛ متذرِّعًا بعمومِ قولِهِ صلى الله عليه وسلم:(افْعَلْ وَلَا حَرَجَ)(3)؛ فإنَّ ذلك كان في أعمالِ يومِ النَّحْرِ، لا في كلِّ مَناسكِ الحجِّ.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 438)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 344).
(2)
"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 344).
(3)
أخرجه البخاري (83)(1/ 28)، ومسلم (1306)(2/ 948)؛ من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما.
جعَلَ اللهُ للحجِّ زمنًا يُعمَلُ فيه، ويسمَّى أَشْهُرَ الحجِّ، وهي: شَوَّالٌ، وذو القَعْدَةِ، وعَشْرٌ من ذي الحِجَّةِ، على قولِ جمهورِ العلماءِ؛ كأحمدَ وأبي حنيفةَ والشافعيِّ.
وجعَلَ الشافعيُّ ليلةَ النَّحْرِ فقطْ مِن أشهُرِ الحَجِّ، لا يَوْمَهُ.
روى ابنُ أبي شَيْبَةَ، عن عبدِ اللهِ قولَه:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قال: "شوالٌ، وذو القَعْدةِ، وعَشْرُ ذي الحِجَّةِ"(1).
وقال له ابنُ عباسٍ وابنُ عُمَرَ، ومجاهِدٌ والشَّعْبيُّ والنَّخَعيُّ (2).
وظاهرُ الآيةِ: جعلُ الأشهرِ أكثَرَ مِن اثنَيْنِ، وهو أقلُّ الجمعِ على قولٍ؛ وذلك لأنَّه جعَلَ بعضَ الشهرِ بمنزلةِ الشهرِ؛ تقولُ: رأيتُك شهرَ كذا أو سنَةَ كذا أو يومَ كذا، والمقصودُ: رأيتَهُ فيه؛ أي: في أيَّامٍ منه لا كلِّه.
وقد جعَلَ مالكٌ ذا الحجَّةِ كاملًا، وليس مرادُ مالكٍ: أنَّ الحَجَّ يصحُّ بعدَ ليلةِ النحرِ، ولا أنَّ المعتمِرَ بعدَها يُعتبَرُ متمتِّعًا؛ وإنَّما المرادُ بقاءُ فضلِ الأيامِ والسَّعَةُ في أعمالِها، وأنَّ العمرةَ في باقي ذي الحجةِ مفضولةٌ.
وقد كان غيرُ واحدٍ مِن السلفِ يَكْرَهُ أداءَها في أشهُرِ الحجِّ لغيرِ المتمتِّعِ؛ رُوِيَ هذا عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ سِيرينَ، والقاسمِ بنِ محمدٍ:
روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن طارقِ بنِ شهَابٍ؛ قال: قال عبدُ اللهِ:
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(13636)(3/ 222).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 221 - 222).
"الحَجُّ أشهُرٌ معلوماتٌ؛ ليس فيها عُمْرةٌ"(1)؛ وهو صحيحٌ.
قال محمدُ بنُ سِيرِينَ: "ما أحدٌ مِن أهلِ العلم يَشُكُّ في أنَّ عمرةً في غيرِ أشهرِ الحجِّ أفضلُ مِن عمرةٍ في أشهرِ الحجِّ"(2).
وليس المرادُ في ذلك تفضيلَ الإفرادِ على التمتُّعِ بكلِّ حالٍ، ولكنَّ المرادَ أنَّ فضلَ العمرةِ بسفرٍ قاصدٍ وَحْدَها أعظَمُ ممَّن قَصَدَ حَجَّتَهُ وعمرتَهُ بسفرةٍ واحدةٍ؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ مَن قصَدَ مكةَ بعمرةٍ في أشهرِ الحجِّ أنَّه يُتْبِعُها بحجٍّ مِن عامِه.
وقد كان عمرُ بنُ الخَطَّابِ يَرَى فَضْلَ التمتُّعِ ولوِ اعتمَرَ بسفرٍ خاصٍّ مِن عامِه؛ كما صحَّ عنه عندَ ابنِ أبي شَيْبةَ؛ أنَّه قال: "لوِ اعْتَمَرْتُ ثمَّ اعْتَمَرْتُ ثمَّ حَجَجْتُ، لَتَمَتَّعْتُ"(3).
ولهذا ذكَرَ غيرُ واحدٍ مِن العلماءِ: أنَّ العمرةَ في غيرِ أشهرِ الحجِّ أفضلُ مِن العمرةِ في أشهرِ الحجِّ، ومرادُهم: قَصْدُ النُّسُكَيْنِ بسفَرَيْنِ؛ وإلا فعُمَرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلُّها في أشهرِ الحجِّ، كان يقصدُ العمرةَ في ذي القَعْدةِ ويَرجِعُ، إلا لمَّا حَجَّ، قَرَنَ عمرتَهُ بحَجَّتِه.
وروى أيُّوبُ، عن نافعٍ؛ قال: قال ابنُ عمرَ: "أنْ تَفْصِلُوا بينَ أشهُرِ الحجِّ والعمرةِ، فتجعَلُوا العمرةَ في غيرِ أشهرِ الحجِّ: أتمُّ لحجِّ أحدِكم، وأتمُّ لعُمْرتِهِ"(4).
فهم يَرَوْنَ التمامَ للنسك بالعملِ التامِّ مِن دارِ الرجلِ، قاصدًا إلى دارِهِ راجعًا، لحجِّهِ وعمرتِهِ، كلُّ واحدةٍ منفردة.
لذا ذكَرَ مالكٌ أنَّ مِن أشهُرِ الحجِّ ذا الحِجَّةِ كاملًا؛ لأنَّ العمرةَ
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 345).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 451).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(13700)(3/ 228).
(4)
"تفسير الطبري"(3/ 449).