الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظلمُ الزوجِ لزوجتِهِ:
وقولُهُ تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} :
ذكَرَ العُدْوانَ علي الزوجةِ، ثمَّ ذكَرَ الظُّلْمَ أنَّه ظُلْمُ النفسِ، مع أنَّ النهيَ دفعًا لظلمِ الزوجةِ؛ وذلك أنَّ كلَّ ظلمٍ يظلِمُ الإنسانُ به غيرَهُ، فهو ظلمٌ لنفسِهِ وغيرِه، وليس كلُّ ظُلْمِ الإنسانِ لنفسِهِ يكونُ ظلمًا لغيرِه.
ولأنَّ الضَّرَرَ اللاحقَ للزوجةِ مِن زَوْجِها ينزِلُ أثَرُه على الزوجِ أعظمَ مِن أثرِهِ علي الزوجةِ؛ لشِدَّةِ عاقبةِ الظالمِ عاجلةً وآجِلةً، فعُدَّ ظالِمًا لنفسِهِ.
وفي هذه الآيةِ: تنبيهٌ للظالمِ أنْ يستحضِرَ عَظَمةَ عاقبةِ ظُلْمِهِ عليه، قبلَ عاقبةِ ظُلْمِهِ على غيرِه؛ لأنَّ انتقامَ اللهِ أسرَعُ وأشدُّ.
طلاقُ الهازِلِ:
قولُهُ تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} : والمُرادُ بآياتِ اللهِ: حدودُهُ وتفصيلُهُ للحلالِ والحرامِ، ومِن الاستهزاءِ بآياتِ اللهِ: معرفتُها وتَرْكُها بلا مبالاةٍ بها، ولو لم ينطِقْ بها سوءًا؛ فهذا مِن الاستهزاءِ عملًا.
فالطلاقُ حَدٌّ مِن حدودِ اللهِ، أَحْكَمَهُ اللهُ وأتَمَّهُ في كتابِه، فلا يجوزُ فيه الهَزْلُ واللَّعِبُ، وقد كان أهلُ الجاهليَّةِ يطلِّقُونَ ويُعتِقونَ، ثم يَرجِعونَ ويقولُونَ: كنَّا نَلْعَبُ ونَهْزَأُ، فنهاهُم اللهُ عن ذلك.
روى الحسَنُ، عن أبي الدرداءِ: كان الرجلُ يطَلِّقُ في الجاهليَّةِ، ويقولُ: إنَّما طَلَّقْتُ وأنا لاعبٌ، وكان يُعتِقُ ويَنكِحُ ويقولُ: كنتُ لاعِبًا، فقال عليه السلام:(مَنْ طَلَّقَ أَوْ حَرَّرَ أَوْ نَكَحَ أو أَنْكَحَ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لَاعِبٌ، فَهُوَ جِدٌّ)(1).
(1)"تفسير القرطبي"(4/ 101). وينظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(18406)(4/ 115)، و"تفسير الطبري"(4/ 184)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 425).
وقد حكى غيرُ واحدٍ مِن الأئمَّةِ الإجماعَ على وقوعِ طلاقِ الهازلِ؛ لأجْلِ ذلك؛ فإنَّ الهزلَ لا يزيدُ الإنسانَ إلَّا إثمًا مع عدمِ جَدْواهُ وأثَرِهِ في طلاقِهِ، ولِمَا جاءَ عندَ أبي داودَ والتِّرْمِذيِّ وغيرِهِما، عن عطاءٍ، عن يوسفَ بنِ ماهَكَ، عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه؛ قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ)(1).
ورواهُ عبدُ الرَّزَّاقِ، عنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ؛ قالَ:"يُقالُ: مَنْ نَكَحَ لاعِبًا، أو طلَّقَ لاعبًا، فقد جازَ"(2).
وهو أَشْبَهُ.
ورُوِيَ هذا الحديثُ مِن طرقٍ لا تخلُو مِن عِلَّةٍ.
وذكرَ ابنُ عبدِ البرِّ وغيرُهُ أنَّ العلماءَ لا يَختلِفونَ في أنَّ طلاقَ الرجلِ ونِكاحَهُ هازلًا يَقَعُ (3).
لا يسخَرُ مِن آياتِ اللهِ وأحكامِه إلَّا مَن نَسِيَ نعمةَ اللهِ عليه؛ فذِكْرُ النِّعَمِ يُوجِبُ تعظيمَ المُنعِمِ، فذَكَّرَ اللهُ الإنسانَ بنِعمتِه، وأمَرَهُ باستحضارِها في قلبِه؛ ليستحضِرَ هَيْبةَ المُنعِمِ وعظمتَهُ ومِنَّتَهُ على عبدِه.
وأعظَمُ النِّعَمِ نعمةُ الأسلامِ والوَحْيِ كتابًا وسُنَّةً، والكتابُ إذا ذُكِرَ فيدخُلُ فيه السُّنَّةُ مع القرآنِ، وإذا ذُكِرَ الَكتابُ ومعه الحِكْمةُ، فالكتابُ القرآنُ، والحِكْمةُ السُّنَّةُ.
(1) أخرجه أبو داود (2194)(2/ 259)، والترمذي (1184)(3/ 482)، وابن ماجه (2039)(1/ 658).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(10243)(6/ 133).
(3)
"الاستذكار"(16/ 376)، و"معالم السنن"(3/ 243).
ثمَّ أمَرَ اللهُ بتَقْوَاهُ، وخَوَّفَ عبادَهُ نفسَهُ، ولمَّا كان الأمرُ يتعلَّقُ بالقلوبِ، وذلك عندَ قصدِ الزوجِ الإضرارَ بالزوجةِ، أو الاستهزاءَ بآياتِ اللهِ، وعدمَ الجِدِّ، ذكَّرَهُمْ بسَعَةِ علمِهِ واطِّلاعِهِ على كلِّ شيءٍ ممَّا يُخْفُونَ وممَّا يُعلِنونَ.
وكذلك: فاللهُ يَقضِي بينَكُمْ ويفصِّلُ لكَم الحدودَ، عن علمٍ تامٍّ، وحكمةٍ بالغةٍ، فيجب التسليمُ له والانقيادُ لأمرِه.
* * *
نهى اللهُ عنِ الإضرارِ بالمرأةِ حالَ عِصْمَتِها في زوجِها، فيُمسِكُها ضرارًا بِها، ثُمَّ نهى عنِ الإضرارِ بها بعد أَجَلِها، فتُعضَلُ عنِ الزواجِ؛ سواءٌ بالرجوعِ إلى زَوْجِها الأوَّلِ رجوعًا مشروعًا، أو إلى زوجٍ آخرَ.
والخطابُ في الآيةِ السابقةِ للأزواجِ، وفي هذه الآيةِ للأولياءِ بالاتفاقِ، وبلوغُ الأجلِ في الآيةِ السابقةِ قربُ انقضائِهِ وفي هذه الآيةِ انقضاؤُه بالاتفاقِ.
والآيةُ نزَلَتْ في مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ؛ إذْ هو وليُّ أُختِهِ، فعَضَلها عن زوجِها، وهي في كلِّ ولِيٍّ مِن بعدِه، لقد روي البخاريُّ في "صحيحِه"؛ مِن حديثِ الحَسَنِ في قولِهِ تعالى:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} ، قال: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَت فِيهِ؛ قَالَ: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ، فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ