الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجوبِ إلى الاستحبابِ والتأكيدِ غيرِ المُلْزِمِ، وهذا ما يميلُ إليه الشافعيُّ؛ قال رحمه الله:"معنى الحديثِ: ما الحزمُ والاحتياطُ للمُسْلمِ إلا أنْ تكونَ وصيتُهُ مكتوبةً عندَهُ، فيُستحَبُّ تعجيلُها، وأنْ يَكْتُبَها في صِحَّتِه، ويُشهِدَ عليه فيها، ويكتُبَ فيها ما يحتاجُ إليه"(1).
وأمَّا ما جاء في "الصحيحِ"؛ مِن حديثِ ابنِ شِهَابٍ، عن نافعٍ؛ قال: قال عبدُ اللهِ بنُ عمرَ: "ما مَرَّتْ عليَّ ليلةٌ منذُ سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال ذلك، إلا وعندي وصيَّتي"(2).
فظاهرُهُ: أنَّ الوصةَ كانتْ أولَ الأمرِ منه، فيظهرُ أنَّه أنفَقَ مالَهُ الذي أَوْصَى به بعدَ ذلك، ثمَّ لم يُوصِ بعدُ؛ لأنَّه قال في روايةِ أيوبَ، عن نافعٍ:"أمَّا مالي، فاللهُ أعلَمُ ما كنتُ أصنَعُ فيه في الحياةِ"(3).
حكمُ الوصيَّةِ للورثةِ:
وقد اتَّفَقَ العلماءُ أنَّ الوصيَّةَ لا تكونُ لوارثٍ، ولا تكونُ في حرامٍ.
وقد منَعَ مِن ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم في آخِرِ حياتِه في حَجَّةِ الوداعِ؛ لِما رواهُ أصحابُ "السننِ"، عن عمرِو بنِ خارجةَ، وما رواهُ أبو داودَ والترمذيُّ، عن أبي أمامةَ؛ كلاهُما يقولُ: سمعتُ النبيَّ قال: (إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)(4).
الخلافُ في وجوب الوصيَّةِ:
وقد اختلَفَ العلماءُ في الأصلِ في الوصيَّةِ: هل هو على الوجوبِ، أو على الاستحبابِ؟ على قولَيْنِ:
(1) ينظر: "المجموع" للنووي (15/ 408)، و"شرح النووي على مسلم"(11/ 75).
(2)
أخرجه مسلم (1627)(3/ 1250).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
أخرجه أبو داود (2870)(3/ 1114)، والترمذي (2120)(4/ 433)، وغيرهما.
القولُ الأولُ: الاستحبابُ؛ وهو قولُ أكثرِ العلماءِ؛ بل عَامَّتِهم، وهو قولُ الحسنِ، وقتادةَ، والنَّخَعيِّ، والشَّعْبيِّ، ومالكٍ، وأبي حنيفةَ، والأوزاعيِّ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وجابرِ بنِ زيدٍ (1).
وهذا هو الأرجحُ؛ لأنَّ الآيةَ منسوخةٌ، وحكى بعضُ العلماءِ عدمَ معرفةِ الخلافِ في نَسْخِها، وإنَّما اختُلِفَ في مقدارِ ما نُسِخَ منها؛ منهم مَنْ قال: كلُّها، ومنهم مَن قال: بعضُها.
وقد كان الحُكْمُ في الآيةِ في ابتداءِ الأمرِ لمَّا كان المشرِكُونَ على ظلمٍ في الوصيةِ، وعدمِ عدلٍ مع القَرَابةِ، وعدمِ الوفاءِ بالحقِّ؛ وكان هذا قَبْلَ المِيرَاثِ، وبَقِيَ هذا المعنى عندَ مَن أسلَمَ منهم.
ودليلُ هذا: ما رواهُ البخاريُّ في "صحيحِه"، عن حابرِ بنِ عبدِ اللهِ؛ قال: عادَني النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ في بَنِي سَلِمةَ ماشِيَيْنِ، فوجَدَني النبيُّ لا أَعْقِلُ، فدَعَا بماءٍ، فتوضَّأَ منه، ثمَّ رَشَّ عَلَيَّ، فأَفَقْتُ، فقلتُ: ما تأمُرُني أنْ أصنَعَ في مالي يا رسولَ اللهِ؟ فنزَلتْ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11](2).
ولا خلافَ أنَّ آيةَ المواريثِ نزَلتْ بعدَ آيةِ الوصيَّةِ.
ونصَّ على نسخِ آيةِ الوصيَّةِ مِن السلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ عمرَ، وأبو موسى الأشعريُّ، وابنُ المسيَّبِ، ومسروقٌ، وزيدُ بنُ أسلَمَ، وشُرَيْحٌ، ومجاهدٌ، وعطاءٌ، وابنُ سِيرِينَ، ومسلمُ بنُ يسارٍ، والعلاءُ بنُ زيادٍ، والزُّهْريُّ، وقتادةُ، وغيرُهم؛ أخرَجَهُ عنهم وعن بعضِهم ابنُ أبي حاتمٍ، وابنُ جريرٍ، وابنُ المنذرِ في "التفسيرِ".
(1) ينظر: "البحر الرائق"(8/ 459)، و"التمهيد"(14/ 292)، و"المجموع"(15/ 401)، و"المغني"(6/ 137).
(2)
أخرجه البخاري (4577)(6/ 43).
وروى البخاريُّ، عن ابنِ عباسٍ؛ قال:"كان المالُ للوَلَدِ، وكانتِ الوصيَّةُ للوَالِدَيْنِ؛ فنسَخَ اللهُ مِن ذلكَ ما أَحَبَّ"(1).
ونسَخَ اللهُ الوجوبَ، ولم يَنْسَخِ الفضلَ والعملَ به؛ وإنَّما نسَخَ اللهُ التأكيدَ والإلزامَ في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ} .
وآيةُ المواريثِ لا تدُلُّ على ما يُخالفُ آيةَ الوصيَّةِ؛ لأنَّ الوصيَّةَ تكونُ في بعضِ المالِ، والإرثَ في باقِيهِ؛ وذلك لقولِهِ تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء: 12].
القولُ الثاني: وجوبُ الوصيَّةِ وإحكامُ الآيةِ، وعدمُ نسخِها بكاملِها، وأنَّ ما نُسِخَ هو فرضُ الوصيَّةِ للوارثِ فحَسْبُ؛ لأنَّ قَسَمَ له حقَّه وبيَّنَهُ له؛ وهو قولُ الحسَنِ، والضحَّاكِ، وطاوسِ بنِ كَيْسانَ، وقال به الطبريُّ وغيرُهُ (2).
وقد روى البخاريُّ ومسلمٌ؛ مِن حديثِ طَلْحةَ بنِ مصرِّفٍ؛ قال: "سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ أبي أَوْفَى رضي الله عنهما: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الوَصيَّةُ أَوْ أُمِرُوا بِالوَصِيَّةِ؟ قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللهِ"(3).
يُريدُ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا كان لا يُورَثُ، فكذلك لا يُوصِي بمالِه، ولكنَّه أوصَى بما يعودُ على المسلِمِينَ بالتمسُّكِ بكتابِ الإسلامِ، وقد كان مِن عادةِ المسلِمِينَ أنْ يقولُوا للمريضِ إذا خِيفَ عليه الموتُ:"أَوْصِ".
والقولُ ببقاءِ حُكْمِ الوصيَّةِ للأقرَبِينَ غيرِ الوارِثِينَ روايةٌ عن ابنِ عباسٍ، ومسروقٍ، ومسلمِ بنِ يسارٍ، والعلاءِ بنِ زيادٍ، وغيرِهم:
روى ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عِكْرِمةَ، عن
(1) أخرجه البخاري (2747)(4/ 4).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 138).
(3)
أخرجه البخاري (2740)(4/ 3)، ومسلم (1634)(3/ 1256).
ابنِ عباسٍ؛ قولَه: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ؛ قال: "نسَخَ مَن يَرِثُ، ولم يَنْسَخِ الأقرَبِينَ الذين لا يَرِثُونَ"(1).
وروى عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ؛ قولَه:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} : "فنسَخَ مِن الوصيَّةِ الوالِدَيْنِ، وأثبَتَ الوصيَّةَ للأقرَبِينَ الذين لا يَرِثُونَ"(2).
وروى عن ابنِ طاوُسٍ، عن أبيهِ؛ قل:"كانتِ الوصيَّةُ قبلَ المِيرَاثِ للوالِدَيْنِ والأقرَبِينَ، فلمَّا نزَلَ الميراثُ، نَسَخَ الميراثُ مَن يَرثُ، وبَقِيَ مَن لا يَرِثُ؛ فمَن أَوْصَى لذي قَرَابَتِهِ، لم تَجُزْ وصيتُهُ، فأنزَلَ اللهُ بعدَ هذا: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]؛ فبَيَّنَ اللهُ سبحانَهُ ميراثَ الوالدَيْنِ، وأقَرَّ وصيَّةَ الأقرَبِينَ في ثُلُثِ مالِ الميتِ"(3).
وبعضُ مَن قال بالنسخِ قَيَّدَ مشروعيَّةَ أصلِ الوصيَّةِ بقراباتِ المُوصِي، وأنَّه لو أَوْصَى لغيرِهم، بطَلَتْ؛ قال به جابرُ بنُ زيدٍ، والشعبيُّ، وإسحاقُ بنُ راهوَيْهِ، والحسنُ البصريُّ (4).
* * *
قالَ اللهُ تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181].
وتبديلُ الوصيَّةِ مِن الكبائرِ، وتغييرُ وِجْهةِ المالِ التي صرَفَها
(1)"تفسير الطبري"(3/ 128).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 130).
(3)
"تفسير الطبري"(3/ 129 - 130).
(4)
"تفسير الطبري"(3/ 128 - 133)، و"تفسير ابن المنذر"(2/ 576)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 299).