الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوقوفُ بعَرَفةَ والمبيتُ والنحرُ وأيامُ مِنًى وغيرُها ممَّا عُيِّنَ، في غيرِ أشهُرِ الحجِّ، فهو باطلٌ بلا خلافٍ؛ بل مَنْ قال بِصِحَّتِها في غيرِ أيَّامِها، فهو كافرٌ؛ لإنكارِهِ معلومًا مِن الدينِ بالضرورةِ، وأمَّا الإهلالُ بالحجِّ مِن غيرِ المواقيتِ المكانيَّةِ، فلا يُبطِلُ الحجَّ؛ وإنَّما يأثَمُ صاحِبُهُ بلا خلافٍ؛ وإنَّما الخلافُ في وجوبِ الدمِ عليه.
ثمَّ قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} ؛ أيْ: مَن أوجَبَهُ على نفسِهِ ودخَلَ فيه، وجَبَ عليه اجتنابُ ما نَهَى اللهُ عنه، وفِعْلُ ما أمَرَ اللهُ به، وله الترخُّصُ برُخَصِ اللهِ فيه.
حكمُ عقد نيَّةِ الحجِّ من أشهر الحج:
وفيه أهميةُ عَقْدِ نيةِ الحجِّ في أشهُرِهِ؛ وهذا ظاهرٌ مِن قولِه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} ، واختلَفَ العلماءُ في عَقْدِ النيةِ قبلَ أشهرِ الحجِّ وانتظارِ الحجِّ:
القولُ الأولُ: ما ذهَبَ إليه جمهورُ العلماءِ؛ وهو أنَّ الإحرامَ صحيحٌ؛ وهو خلافُ الأَوْلى؛ وهو قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ.
وأنَّ اللهَ إنَّما ذكَرَ أفضَلَ الأحوالِ، ولم يَفرِضْها، فمَن أَحْرَمَ مِن بيتِ المَقْدِسِ أو مِن الصِّينِ أو مِن الأندلس في رمضانَ أو قبلَهُ وسارَ، فحجُّهُ صحيحٌ ولو أحرَمَ قبلَ الميقاتِ المكانيِّ والزمانيِّ جميعًا؛ فقد رخَّصَ اللهُ بالإهلالِ في جميعِ الأشهرِ؛ كما في قولِه تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
القولُ الثاني - وهو قولُ الشافعيِّ -: أنَّ الإهلالَ للحجِّ لا يصحُّ إلا في أشهُرِهِ؛ لظاهرِ التقييدِ في الآيةِ، وعندَهُ: أنَّ مَن أهَلَّ قبلَ أشهرِ الحجِّ، لم يَنعقِدْ إحرامُهُ، وعنه قولانِ في انقلابِهِ إلى عُمْرةٍ؛ ورُوِيَ هذا القولُ عن جماعةٍ مِن السلفِ مِن الصحابةِ والتابعِينَ.
قال به جابرٌ وابنُ عباسٍ وأصحابُهُ كعطاءٍ وطاوسٍ ومجاهدٍ (1).
وقولُ ابنِ عباسٍ فيه: "مِن السُّنَّةِ ألَّا يُحرِمَ بالحَجِّ إلا في أشهرِ الحجِّ"؛ رواهُ ابنُ مَرْدَوَيْهِ.
وفي لفظٍ عنه: "لا ينبغي لأحدٍ أنْ يُحرِمَ بالحجِّ إلا في شهورِ الحجِّ"(2).
وسُئِلَ جابرٌ: "أيُحرَمُ بالحجِّ في غيرِ أشهرِ الحجِّ؟ قال: لا".
رواهُما الشافعيُّ (3).
والعِبْرةُ في فرضِ الحجِّ بعَقْدِ النِّيَّةِ فيه؛ لأنَّ العملَ لا بدَّ أنْ يكونَ في أشهُرِه، ومَن عقَدَ نيةَ الحجِّ في آخِرِ يومٍ مِن رمضانَ قبلَ غروبِ الشمسِ: لم يَفرِضْهُ في أشهرِ الحجِّ؛ وهذا قولُ جابرٍ مِن الصحابةِ، ولا مخالفَ له، ومِثلُ هذا مَن عقَدَ النيةَ قبلَ غروبِ شمسِ آخِرِ يومٍ مِن شعبانَ للعمرةِ: لم تكنْ عُمرتُهُ في رمضانَ ولو كان عَمِلَها فيه.
وقولُه: {فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} دليلٌ على وجوبِ إتمامِ الحجِّ بمجردِ الدخولِ فيه؛ وهذا كقولِهِ تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]؛ فسمَّى الدخولَ في الحجِّ فرضًا.
والمرادُ بالفرضِ عَقدُ نيةِ النُّسُكِ على الصحيحِ؛ وهو قولُ أكثرِ السلفِ؛ كابنِ عباسٍ وعطاءٍ وإبراهيمَ، ورُوِيَ عن بعضِ السلفِ: أنَّ الفرضَ هنا التلبيةُ؛ وهو قولُ طاوسٍ والقاسمِ بنِ محمدٍ، والتلبيةُ سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ على الصحيحِ، وعلامةٌ ظاهرةٌ لفرضِ النُّسُكِ، وليستْ هي فرضَهُ، فيدخُلُ بالنيةِ ولو لم يُلَبِّ، ولا يدخُلُ بالتلبيةِ إذا لم يَنْوِ، وقد كان بعضُ
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنه"(14617) و (14618) و (14619)(3/ 323).
(2)
"تفسير ابن كثير"(1/ 541).
(3)
"الأم"؛ للشافعي (3/ 387 ط. رفعت فوزي).