الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأوَّلُ: أنَّها كالحُرَّةِ؛ وهو قولُ ابنِ المسيَّبِ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ ومجاهدٍ وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ والشَّعْبيِّ والأوزاعيِّ.
واستدلَّ بما رواهُ أبو داودَ في "سُننِهِ"؛ مِن حديثِ قَبِيصةَ بنِ ذُؤَيْبٍ، عن عمرِو بنِ الْعَاصِ؛ قال:"لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةً، قَالَ ابنُ المُثَنَّى: سُنَّةُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم: عِدَّةُ المُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ؛ يَعْنِي: أُمَّ الْوَلَدِ"(1).
لا يَصِحُّ رفعُهُ، والموقوفُ أصحُّ، وقَبِيصةُ لم يَسمَعْ مِن عمرٍو.
الثاني: أنَّ عِدَّتَها كعِدَّةِ الأَمَةِ سواءً، وهي شهرانِ وخمسةُ أيَّامٍ؛ وهذا قولُ طاوُسٍ وقتادةَ.
الثالثُ: وهو أصحُّ الأقوالِ، وقولُ الجمهورِ: أنَّها تَستبْرِئُ رَحِمَها بحيضةٍ فقَطْ؛ لأنَّها ليست كالأَمَةِ الزَّوْجةِ، وليست كالحُرَّةِ الزَّوْجةِ؛ فلا يجبُ عليها إلَّا الاستبراءُ، والآيةُ نزَلَتْ في الأزواجِ.
وهذا قولُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ واللَّيْثِ.
وهو قولٌ مرويٌّ عن عُمَرَ وابنِه وعثمانَ وعائشةَ وزيدٍ.
الرَّابعُ: أنَّها تعتَدُّ بثلاثِ حِيَضٍ؛ وهو قولُ أبي حنيفةَ والثَّوْريِّ.
وعُلِّلَ ذلك: بأنَّها ليست زوجةً، فتعتدَّ بعِدَّةِ الزَّوْجاتِ، وليست أَمَةً فقد توُفِّيَ عنها زوجُها، وهي في حُكْمِ الحُرَّةِ؛ فلا تأخُذُ حُكْمَ الإماءِ فتستبرِئَ بحَيْضةٍ، فجعَلُوها تعتدُّ احتياطًا بعِدَّةِ الحُرَّةِ التي تستبرِئُ رَحِمَها بثلاثِ حِيَضٍ.
ما يحرُمُ على المرأة في الحدادِ:
ويُروى هذا عن عليٍّ وابنِ مسعودٍ.
وفي عِدَّةِ المرأةِ حِدادُها وامتناعُها عمَّا تتزيَّنُ به المرأةُ عادةً؛ مِن
(1) أخرجه أبو داود (2308)(2/ 294).
اللباسِ المزيَّنِ والحُلِيِّ والكُحْلِ، ولا تَصبُغُ جِسْمَها بالزِّينةِ (كالمكياج)، إلَّا ما يستُرُ عَيْبًا خِلْقيًّا؛ كحروقٍ وشِبْهِها، ولا تتطيَّبُ، ولها أن تتطيَّبَ بما يُذهِبُ الرائحةَ الكريهةَ والنَّتْنَ العارضَ، ولا يجبُ عليها أنْ تَلْبَسَ زِيًّا أو لونًا معيَّنًا.
ولا يجوزُ للرَّجُلِ أن يعتدَّ أو يُحِدَّ على أحدٍ، ويجوزُ للمرأةِ أن تُحِدَّ على غيرِ زوجِها؛ كأبيها وولَدِها وأمِّها وأخيها، ثلاثًا، ولا تزيدُ؛ لِما صحَّ مِن حديثِ أمِّ حبيبةَ مرفوعًا:(لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)(1).
وقد وجَّه اللهُ الخطابَ إلى المرأةِ في عِدَّتِها؛ لأنَّها مستأمَنةٌ على ذلك، فقال:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} ، وعِدَّةُ المرأةِ - وخاصَّةً بالحَيْضِ والطُّهْرِ والحملِ الذي في بطنِها - مَرَدُّها إلى عِلْمِها الخاصِّ، فوُجِّهَ الخطابُ إليها في ذلك في العِدَدِ كلِّها؛ تحميلًا للأمانةِ وتشديدًا في الأمرِ، ولأنَّ تكليفَ غيرِها بذلك شاقٌّ، فيسَّر اللهُ على المرأةِ ألَّا يُؤذِيَها أحدٌ بتتبُّعِ خاصَّةِ أمرِها، ويسَّر على الوليِّ ألَّا يكلِّفَهُ اللهُ بما يَشُقُّ عليه، أمَّا وجهُ التشديدِ على المرأةِ؛ فإنَّ الخطابَ الذي يتوجَّهُ إلى الواحدِ تَبِعَتُهُ على شخصِهِ أشدُّ ممَّا لو شارَكَهُ في الخطابِ غيرُهُ.
ثمَّ وجَّه اللهُ الخطابَ إلى الأولياءِ بقولِه: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ؛ لأنَّ المرأةَ بِكْرًا أو ثيِّبًا لا تَفْعَلُ في نفسِها شيئًا إلَّا بإذنِ وليِّها، ولو كانَ التكليفُ بتزويجِ نفسِها بنفسِها، لكان الخطابُ لها خاصًّا؛ كأنْ يقال: (فلا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فيما فَعَلْنَ في
(1) أخرجه البخاري (1280)(2/ 78)، ومسلم (1486)(2/ 1123).
أنفُسِهِنَّ)، فجَعَلَ اللهُ الخِطابَ للوليِّ أن يزوِّجَها، وجعَلَ الاختيارَ لها، فقال:{فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} ؛ سواءٌ اختارَتِ البقاءَ بلا زوجٍ، أو اختارَتْ زوجًا، فلا تزوَّجُ إلَّا برِضاها.
وفي الآيةِ: دليلٌ على أنْ لا نكاحَ إلَّا بوليِّ.
وقيَّد جوازَ فِعْلِهِنَّ بأنفُسِهِنَّ أن يكونَ بالمعروفِ؛ فلا حرامَ فيه ولا سُوءَ، فتَفعَلُ ما صحَّ عُرْفًا لدى أهلِ الفِطَرِ الصحيحةِ غيرِ المبدَّلَةِ، وما صحَّ شرعًا.
وفسَّرَ مجاهِدٌ والزُّهْريُّ والسُّدِّيُّ المعروفَ هنا: بالنِّكَاحِ (1).
وفي قولِهِ تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ، وفي قولِهِ:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ} [البقرة: 232]، وفي قولِه:{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]- دليلٌ على أنَّ المرأةَ تَرجِعُ إلى زَوْجِها إن طُلِّقَتْ بطلاقٍ رجعيٍّ، أو تتزوَّجُ إن كانت بائنًا، بانتهاءِ أَجَلِها المقدَّرِ، ولا أثَرَ للغُسْلِ مِن الحَيْضِ في الرجعةِ؛ لأنَّ اللهَ علَّقَ ذلك بقضاءِ الأَجَلِ، وهذا خلافًا لقولِ شَرِيكٍ في بطلانِ رجعةِ الزوجةِ حتَّى تغتسِلَ، ومثلُهُ قولُ إسحاقَ أنَّ التي تعتَدُّ بالأقرَاءِ لا يجوزُ لها أن تتزوَّجَ حتَّى تغتسِلَ مِن حَيْضِها، وبنحوِ قولِ إسحاقَ رُوِيَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ.
وذكَّر اللهُ بعِلْمِهِ وإحاطتِهِ بعَمَلِ الناسِ ونِيَّاتِهم، فلا يَخْفَوْنَ عليه؛ فقال:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
* * *
(1)"تفسير الطبري"(4/ 260).