الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِيُشْقِيَهُ، حتى لو كان فقيرًا، لكان أهوَنَ مِن غناه، ومِن أعظمِ أنواعِ العذابِ: العذابُ بالنِّعْمةِ يَهَبُها اللهُ الإنسانَ ليتمسَّكَ بها - بل يَبْحَثَ عنها - فيعذِّبَهُ بها؛ فلا هو الذي يريدُ الخلاصَ مِنها برغبتِهِ؛ ليَلْزَمَ عذابُهُ، وهو يَعجِزُ عن تَرْكِه، بخلافِ العذابِ بالنِّقْمةِ والمصيبةِ والمرضِ، فالإنسانُ يطلُبُ منها شفاءً وعافيةً، ويتمنَّى منها مَخْرَجًا، فلو فُتِحَ له بابٌ إلى العافيةِ والشِّفاءِ، لَخَرَجَ، وأمَّا الغنيُّ المعذَّبُ بمالِهِ، فلو فُتِحَ له بابٌ إلى الفَقْرِ، لَمَا خرَجَ إليه، فيعذِّبُهُ اللهُ بمالِهِ وهو ممسِكٌ به.
وقولُهُ تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ؛ مَن عادَ بعدَ عِلْمِهِ بحُرْمةِ الرِّبا، فعانَدَ وكابَرَ، استحَقَّ التشديدَ، وبمِقْدارِ العلمِ والعنادِ تكونُ العقوبةُ، والخلودُ: طُولُ المُكْثِ، وتسمِّي العربُ مولودَها: خَالِدًا؛ تيمُّنًا بتعميرِهِ، لا بتخليدِهِ بلا نهايةٍ.
* * *
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278].
الحكمةُ من تأخيرِ تحريم الربا:
أخَّر اللهُ نزولَ تحريمِ الرِّبا؛ لتعلُّقِ الناسِ به، وشِدَّةِ تمسُّكِهِمْ بأرزاقِهِمْ، فأجَّلَ نزولَ التحريمِ حتى يَقْوَى إيمانُهم؛ لِيسهُلَ عليهمُ التَّرْكُ؛ فقد روى ابنُ جريرٍ؛ مِن حديثِ سعيدِ بنِ المسيِّبِ، عن عُمَرَ بنِ الخطابِ؛ قال:"آخِرُ ما نَزَلَ مِن القرآنِ آيةُ الرِّبَا، وإنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُبِضَ قَبْلَ أَن يُفَسِّرَهَا، فدَعُوا الرِّبا والرِّيبةَ"(1).
وربَّما تأخَّرَ تحريمُ الشيءِ وهو عظيمٌ؛ لأنَّ تعلُّقَ الناسِ به أعظَمُ،
(1)"تفسير الطبري"(5/ 66).
فيتأخَّرُ الحكمُ رِفْقًا بالأُمَّةِ؛ لأنَّ تخلُّفَ أوَّلِها عن الامتثالِ يُورِثُها لآخِرِها، فهيَّأَ اللهُ لدينِهِ دوامَ الثباتِ والبقاءِ، ولأصحابِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم أسبابَ الامتثالِ ومُوجِباتِ حُسْنِ الاقتداءِ، فسببُ الرِّبا فِطْرةُ الشحِّ البشريِّ وشِدَّةُ الطمعِ، وفي هذا يقولُ تعالى:{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128]، وقال:{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 19، 20]، وقال:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، فنزَعَ شُحَّ النفوسِ وطَمَعَها قبلَ تحريمِ الرِّبا؛ بإيجابِ الزكاةِ والحَثِّ على الصدقةِ والإحسانِ، ثُمَّ لمَّا ضَعُفَ شُحُّ النفوسِ وطَمَعُها، تهيَّأَتْ لقبولِ تحريمِ الرِّبا؛ فحَرَّمَهُ اللهُ.
وللرِّبا أثرٌ في الإيمانِ، وللإيمانِ القويِّ أثرٌ في تركِ المالِ الحَرامِ، وشدةُ الطمعِ وقُوَّةُ الإيمانِ لا يَجْتَمِعانِ؛ ولذا قال في الآيةِ:{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ؛ لأنَّ شِدَّةَ الطمعِ تُوجِبُ أكلَ الحرامِ وتركَ الزكاةِ والنَّفقةِ.
وهذه الآيةُ قِيلَ: إنَّها نزَلَتْ في العَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ ورجلٍ مِن بني المُغِيرةِ، كانا شريكَيْنِ فِي الجاهليَّةِ يُسْلِفانِ في الرِّبا إلى أناسٍ مِن ثَقِيفٍ، وهم بنو عمرِو بنِ عُمَيْرٍ، فجاء الإسلامُ ولهما أموالٌ عظيمةٌ في الرِّبا، فنزَلَتْ:{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (1).
فالآيةُ دليلٌ على الترخيصِ بأخذِ ما تَمَّ قبضُهُ مِن المالِ المقبوضِ في الرِّبا قبلَ التوبةِ، وتحريمِ ما لم يُقبَضْ مما كان معلَّقًا؛ حَلَّ أو لم يَحِلَّ؛ إذْ لا يجوزُ قبضُ الحرامِ بعدَ العِلْمِ به ولو كان برِضَا الطرفَيْنِ، فالرِّضَا لا يُحِلُّ الرِّبا، كما لا يُحِلُّ الزِّنى والرِّشْوةَ.
ومَنْ تعاقَدَ بالرِّبا مع صاحبِ رِبًا، فلا يجوزُ له قضاءُ الرِّبا وسدادُهُ
(1)"تفسير الطبري"(5/ 49)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 548).
إلا بإعادةِ رأسِ مالِه، ولو كان عندَ حاكمٍ ظالمٍ يَحبسُهُ حتى يَقْضِيَ رِبَاهُ، جاز له بِنِيَّةِ الخلاصِ من الشرِّ ودفعِ السوءِ، ولا يجوزُ قضاؤُهُ إلا عندَ تحقُّقِ السجنِ أو التهديدِ به مِن قادِرٍ عليه.
* * *
قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279].
وهذا تغليظٌ في أمرِ الرِّبا وتشديدٌ فيهِ؛ فآكِلُ الرِّبا يُبعَثُ كالمجنونِ ليس له حِيلَةٌ في نفسِهِ؛ فكيفَ بغَيْرِه؟ ! في وقتِ هولٍ وكربٍ يُنادَى لحربِ اللهِ؛ كما روى الطَّبَريُّ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عنِ ابنِ عباسٍ:"يُقالُ يومَ القيامةِ لآكِلِ الرِّبا: خُذْ سِلَاحَكَ لِلحَرْبِ"(1).
واللهُ تعالى لم يذكُرْ حَرْبَه لأحدٍ في الوَحْي إلا في ثلاثةِ مواضعَ: للمُشْرِكِ، وللمُرَابِي كما هنا، ولمَنْ عادَى وَليَّهُ؛ كما في الحديثِ القُدُسيِّ:(مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ)(2).
* * *
قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280].
بيَّن اللهُ في الآياتِ السالفةِ رِبَا الجاهليَّةِ، وعظَّم أمرَهُ، ورِبَاهُمْ كان بالزِّيادةِ في الأجلِ والإنظارِ فيهِ، ويقابِلُها زيادةٌ في القضاءِ، فلا يُنظِرُونَ معسِرًا في الأجلِ إلا بزيادةٍ عليه، فيتضاعَفُ الرِّبا، ويتعاظَمُ على
(1)"تفسير الطبري"(5/ 52)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 550).
(2)
أخرجه البخاري (6502)(8/ 105).