الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورُوِيَ عن مجاهدٍ القولُ بعَدَمِ نسخِ الآيةِ، وهو قولٌ لابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنه، وحمَلَ معناها على المشقَّةِ في الصيامِ مع القدرةِ عليه؛ فروى ابنُ أبي حاتمٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} : "لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، لا يُرَخَّصُ هَذَا إِلا لِلْكبِيرِ الَّذِي لا يُطِيقُ، أَوْ مَرِيضٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يَشْفَى"(1).
وهو المعنى الذي يقولُ به مَن قال بالنسخِ، ولكنَّ مجاهِدًا يفرِّقُ بين الشيخِ الكبيرِ والحاملِ والمرضعِ في القضاءِ، فيُلزِمُهُ على الحاملِ والمرضِعِ، ويَرفعُهُ عن الشيخِ الكبيرِ، ويَجعلُ عليه الإطعامَ فقطْ، ومرادُهُ أنَّ الشيخَ الكبيرَ إنَّما أفطَرَ لكِبَرِهِ، والكِبَرُ لا يَرتفِعُ بل يزيدُ، بخلافِ الحملِ والرَّضَاعِ، فهو عارضٌ ويزولُ.
فِطْرُ الحاملِ والمُرْضِعِ:
والعلماءُ يَختلِفونَ في أمرِ الحاملِ والمرضعِ؛ هل يجبُ عليهما القضاءُ والإطعامُ جميعًا، أو يجبُ عليهما أحَدُهما؟
وإنَّما وقَعَ عندَهم الخلافُ: أنَّ منهم مَن جعَلَ الحَمْلَ والرَّضَاعَ عِلَّةً وعذرًا عارضًا كالسَّفَرِ، فلا يجبُ على الإنسانِ إلَّا القضاءُ، وأنَّ الحاملَ والمرضِعَ يختلِفانِ عن الشيخِ الكبيرِ؛ وذلك لأنَّ عُذْرَهُ دائمٌ أو غالبٌ، وهما كحالِ المسافرِ المطيقِ للصومِ، ولكنَّه يَشُقُّ عليه أو يَشُقُّ على رفقتِهِ لو صامَ فيُفطِرُ ويَقضي فقطْ، قالوا: وهكذا الحامِلُ والمرضِعُ.
ومنهم مَن جعلَ حُكْمَهما مقصودًا في الآيةِ، ولم يحتَجْ إلى القياسِ؛ فأوجَبَ الإطعامَ، فمنهم مَن جعَلَ معه القضاءَ، ومنهم مَن لم يجعَلْ معه القضاءَ، والخلافُ عندَهم على قَولَيْنِ:
القولُ الأوَّلُ: ذهَبَ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ: إلى أنَّ
(1)"تفسير الطبري"(3/ 174)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 308).
المرضِعَ والحامِلَ عليهما أن يُطْعِمَا عن كلِّ يومٍ مسكينًا، ولا يجبُ عليهما القصاءُ؛ سواءٌ خافَتا على نفسَيْهِما، أو خافَتا على ولدَيْهِما، وهذا رُوِيَ عنهما؛ كما رواهُ البيهقيُّ في "سُنَنِه"، وكذا عبدُ الرزَّاقِ بأسانيدَ صحيحةٍ صحَّحَها الدارقطنيُّ وغيرُه.
روى الدارقطنيُّ عن أيُّوبَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمرَ:"أنَّ امرأتَهُ سألَتْهُ وهي حُبْلَى، فقال: أَفْطِرِي، وأَطْعِمِي عن كلِّ يومٍ مِسْكِينًا، ولا تَقْضِي"(1).
وبنحوِه عن سعيدِ بنِ حُبَيْرٍ عن ابنِ عبَّاسٍ (2).
ولابنِ عبَّاسٍ قراءةٌ في قولِه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ؛ قال: "يُطَوَّقُونَهُ"؛ مِن الطَّوْقِ الذي يحاطُ بالعُنُقِ؛ أي: يستطيعُ الصيامَ مع المشقَّةِ؛ كأنَّه قد أحاطَ بعنقِهِ، فيستطيعُ الصومَ مع الكُلْفةِ؛ كالشيخِ الكبيرِ، والمرأةِ العجوزِ، والحامِلِ، والمرضِعِ؛ لهذا عليه أن يُطعِمَ على هذا المعنى.
وقد قرأَ بها حَفْصةُ، وسعيدُ بنُ المسيَّبِ، وعِكْرِمةُ مَوْلى عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وعطاءٌ، ومجاهدٌ، وغيرُهم، ولم يقرَأْ بها أحدٌ من العَشَرةِ؛ لمخالفتِها الرَّسْمَ.
وعلَّلَ بعضُهم ترجيحَ هذا القولِ: أنَّ فيه دفعًا لمشقَّةٍ كبيرةٍ على المرأةِ الحامِلِ والمرضِعِ، قالوا: يحصُلُ كثيرًا أن تُنجبَ المرأةُ خمسةَ أولادٍ مثلًا على التتابُعِ؛ فتكونُ المرأةُ سَنَةً حاملًا وسنتَينِ مُرضِعًا في كلِّ ولَدٍ مِن أولادِها، فهذه خمسَ عَشْرةَ سنةً بين حملٍ وإرضاعٍ، فإيجابُ القضاءِ عليها أن تصومَ خمسةَ عشَرَ شهرًا فيه حرَجٌ بالغٌ وشديدٌ، فكيف إذا زادَتِ المرأةُ على خمسةِ أولادٍ؟ !
(1) أخرجه الدارقطني في "سننه"(2388)(3/ 198).
(2)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(2382)(3/ 196).
ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ وابنِ عمرَ خلافُه.
القولُ الثَّاني: ذهَبَ أحمدُ والشافعيُّ، ومالكٌ وأبو حنيفةَ: إلى أنَّ المرضِعَ والحامِلَ يجبُ عليهما أن يَقْضِيَا، واختُلِفَ في الإطعامِ، والحاملُ والمرضعُ في ذلك على حالَيْنِ:
أوَّلًا: إذا خافَتا على نفسَيْهِما؛ فهما يُقاسانِ على المريضِ باتفاقِ الأئمَّةِ الأربعةِ.
ثانيًا: إذا خافَتَا على ولدَيْهِما؛ كأنْ تكونَ المُرضِعُ قد جَفَّ حليبُها، وتخشى أنَّها إن لم تَطْعَمْ، قَلَّ دَرُّها وتضرَّرَ صبيُّها، أو تكونَ حاملًا وتتناولَ علاجًا لصبيِّها في بطنِها:
فذهَبَ أحمدُ وهو المشهورُ مِن مذهبِه، وهو قولُ الشافعيِّ في روايةِ المُزَنيِّ: إلى أنَّها تُفطِرُ وتُطعِمُ وتَقضي، واستَدَلَّ بقولِ اللَّهِ عز وجل:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} .
وهذا القولُ لم يَصِحَّ القولُ به عن أحدٍ من السَّلَفِ - فيما أعلمُ - إلَّا مجاهدَ بنَ جَبْرٍ، وحكاهُ ابنُ أبي حاتمٍ عن بعضِ العراقيِّينَ؛ كالحسنِ والنَّخَعِيِّ في قولٍ له.
روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن عُثْمانَ بنِ الأَسْوَدِ؛ قَالَ: سَأَلْتُ مجاهِدًا عن امْرَأَتِي، وكَانَتْ حَامِلًا، فوافَقَ تاسعُها شَهْرَ رَمَضانَ فِي حَرٍّ شديدٍ، فشَكَتْ إليَّ الصَّوْمَ، قد شَقَّ عليها، قالَ:"مُرْهَا، فَلْتُفْطِرْ وَتُطْعِمْ مِسْكِينًا كُلَّ يَوْمٍ، فَإِذَا صَحَّتْ فَتَفْضِ"(1).
قال أبو عبدِ اللهِ المروزيُّ: "لا نعلمُ أحدًا صَحَّ عنه أنَّه جمَعَ عليهما الأمرَيْنِ: القضاءَ والإطعامَ، إلَّا مجاهدًا".
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 308).
ورُوِيَ عن عطاءٍ وابنِ عمرَ؛ ولا يصحُّ.
وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابُهُ، وهو قولُ الحسَنِ البَصْريِّ، وعطاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ، والضَّحَّاكِ، والنَّخَعيِّ، والزُّهْريِّ، وربيعةَ، والأوزاعيِّ، والليثِ، وأبي ثورٍ، وأبي عُبيدٍ، والطبريِّ: إلى أنَّ عليهما القضاءَ بلا إطعامٍ.
وهو الأوجَهُ؛ فإنَّ ما في بطنِ المرأةِ الحاملِ منها كعضوٍ مِن أعضائِها، غيرُ منفصِلٍ عنها، وقد تؤثِّرُ صِحَّتُها عليه وصحَّتُهُ عليها، وكذلك المرضِعُ؛ فعليها إرضاعُهُ، وهو جهدٌ تبذلُهُ لِحَقِّ غيرِها، كالجهدِ الذي تبذُلُهُ لكفايةِ أهلِ بيتِها من طَبْخٍ وغَسْلٍ، فإذا كانتِ المرأةُ إذا صامَت تَعجِزُ عن الطَّبْخِ لأهلِ بيتِها بسببِ ضَعْفٍ في بدنِها، جاز لها الفِطْرُ، وكذلك المرأةُ المرضِعُ.
وهذا الذي يعضُدُهُ ظاهرُ الدليلِ والقياسُ الصحيحُ.
ولابنِ عبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ قولٌ بوجوبِ القضاءِ فقطْ في الحالَيْنِ:
روى عبدُ الرزَّاقِ في "مصنَّفِه"؛ من حديثِ ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ أنَّه قال بالقضاءِ (1).
وروى البيهقيُّ في "السُّننِ" عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ عثمانَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ؛ مِثلَه.
روى أنسُ بنُ مالكٍ الكَعْبيُّ، قال: أتَيْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فوَجَدتُّهُ يتغدَّى، فقال:(ادْنُ فَكُلْ)، فقلتُ: إنِّي صائمٌ، فقال:(ادْنُ أُحَدِّثْكَ عَنِ الصَّوْمِ، أَوِ الصِّيَامِ؛ إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنِ الحَامِلِ أَوِ المُرْضِعِ الصَّوْمَ، أَوِ الصِّيَامَ)؛ رواهُ أحمدُ
(1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7564)(4/ 218).