الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا؟ ! لَا وَاللهِ، لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ المَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} ، فَقُلْتُ: الآنَ أَفعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ (1).
النكاحُ بلا وليٍّ:
وفي الآيةِ: دليلٌ علي أنْ لا نِكَاحَ إلَّا بوليٍّ؛ وذلك أنَّ اللهَ وَجَّهَ الخطابَ بالنهيِ عنِ الإضرارِ والعضْلِ للأولياءِ، وفي الآيةِ السابقةِ وَجَّهَ الخطابَ للأزوَاجِ، ولا يَنهَى اللهُ عنِ العضلِ والإضرارِ إلَّا ولهم عَلَيْهِنَّ عِصْمةٌ وقِوَامةٌ وأمرٌ، وقد أخرَجَ البخاريُّ حديثَ مَعْقِلٍ هذا في بابِ:(لا نكاحَ إلَّا بوليٍّ).
وقد تقدَّم وضوحُ الدليلِ في ذلك عند قولِ اللهِ تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221].
وبآيةِ البابِ استدَلَّ الشافعيُّ وغيرُهُ: على أنْ لَا نكاحَ إلَّا بوليٍّ، بل قال الشافعيُّ:"وهذا أَبْيَنُ ما في القرآنِ مِن أنَّ للوَليِّ مع المرأةِ في نفسِها حقًّا"(2).
وبنحوِ هذا قال ابنُ جريرٍ.
ولا يُعرَفُ في الصدرِ الأوَّلِ: أنَّ امرأةً زَوَّجَتْ نَفْسَها لرجلٍ غيرِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم؛ ولذا قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، روى سعيدٌ، عن قَتَادةَ، قال:"لَيْسَ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ بغَيْرِ أَمْرِ وَليٍّ وَلَا مَهْرٍ، إِلَّا لِلنَّبيِّ؛ كانت لَهُ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ"(3).
(1) أخرجه البخاري (5130)(7/ 16).
(2)
"الأم" للشافعي (5/ 13).
(3)
"نفسير الطبري"(19/ 132)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3144).
وبهذا قال جماعةٌ مِن المُفسِّرينَ؛ كالشَّعْبيِّ وابنِ زيدٍ (1).
وهذا الأمرُ مستقرٌّ عندَهم، ولاستفاضتِهِ ولتسليمِهِمْ به عمَلًا، لم تتداعَ هِمَمُ النَّقَلةِ للتدليلِ عليه مِن كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإنَّما تُذكَرُ أحكامُ الوليِّ على سبيلِ الاعتراضِ والتَّبَعِ والاستطرادِ، ومِن ذلك قولُهُ صلى الله عليه وسلم:(لَا تُنْكَحُ الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ)(2)؛ يعني: أنَّ الذي يُنكِحُها: وليُّها، ولكنَّه حَدَّ مِن حقِّه في ذلك باستئمارِ الثَّيِّبِ، واسئِتذانِ البِكْرِ، فأمرُ الوليِّ مستقِرٌّ، ولكنَّه مَنَعَ الاستبدادَ به؛ حتَّى لا يَضِيعَ في ذلك حقُّ المرأةِ.
والمستقِرُّ حُكْمًا وعَمَلًا في الصدرِ الأوَّلِ: لا يُطلَبُ له دليلٌ قويٌّ، كما يُطلَبُ لغيرِهِ ممَّا يقَعُ فيه خلافٌ، ولا تَعُمُّ به البَلْوَى، وهذه القاعدةُ هي سبَبُ الاضطرابِ عندَ بعضِ الفقهاءِ والمحدِّثينَ في القرونِ المتأخِّرةِ؛ حيثُ لا يفرِّقونَ بين المسائلِ في طلبِ الدليلِ، وربَّما حمَلَهم ذلك على ردِّ السُّنَّةِ بحُسْنِ قصدٍ، وبحُجَّةِ التمسُّكِ بالسُّنَّةِ وتعظيمِها.
وأمَّا استدلالُ مَن يقولُ بصِحَّةِ نِكاحِ الثيِّبِ بلا ولِيِّها، بما ثبَتَ في "الصحيحِ"؛ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ؛ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإذْنُهَا صُمَاتُهَا)(3).
فهذا هو دليلٌ على الوليِّ، لا دليلٌ علي نْفيِه؛ ففي الحديثِ:(أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا)، فأثبَتَ الولِيَّ لها ولم يَنْفِهِ، ثمَّ بَيَّنَ بعدُ المرادَ مِن أحقِّيَّتِها بنفسِها؛ في حُكْمِ البِكْرِ، قال:(تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا)؛ فثَمَّةَ وليٌّ لهما، ولكنَّ البِكْرَ تزوَّجُ بصُمَاتِها، والثَّيِّبَ لا بُدَّ مِن تصريحِها بقَبُولٍ أو عدمِه.
(1)"تفسير الطبري"(19/ 133).
(2)
أخرجه ابن ماجه (1871)(1/ 601).
(3)
أخرجه مسلم (1421)(2/ 1037).
والوليُّ معها إنَّما هو عاقدٌ، ورفضُها لرأيِ وليِّها ماضٍ عليه، ورفضُ الوليِّ لرَغْبَتِها عَضْلٌ؛ ولذا هي أحقُّ بنفسِها مِن وليِّها، ولكنْ ليس لها أنْ تتزوَّجَ بمَن تُرِيدُ إلَّا بعقدِ وليِّها لها، وليس لوليِّها مَنْعُها ممَّن تريدُ؛ لعمومِ الأدَّلةِ المستفيضةِ في ذلك، ومنها قولُهُ صلى الله عليه وسلم:(لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ)(1)، وقولُهُ:(أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ)(2)، وهي وغيرُها نصوصٌ عامَّةٌ، لا تفرِّقُ بين ثيِّبٍ وبِكْرٍ.
ويؤيِّدُ ذلك: أنَّ البِكْرَ قد تزوَّجُ بلا إذنِها كالصغيرةِ، ولمَّا ذكَرَ الثيِّبَ قال صلى الله عليه وسلم:(الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَليِّهَا)؛ ففرَّقَ بين البِكْرِ واالثيِّبِ في الإذنِ، لا في أصلِ حقِّ الوليِّ والعقدِ.
ولو كانتِ البِكْرُ تتشابَهُ معَ الثَّيِّبِ في أصلِ الولِيِّ فقطْ، لَحُمِلَ حديثُ ابنِ عبَّاسٍ على حقِّها بتزويجِ نفسِها دون وليِّها، ولكنَّ الثيِّبَ والبِكْرَ تختلفانِ في الإذنِ، وحَمْلُ الاختلافِ على أصلِ الوِلَايةِ إلغاءٌ لأحاديثَ كثيرةٍ وعَمَلٍ مستفيضٍ، وحَمْلُهُ علي اختلافِ الإذنِ أَوْلَى وأحَقُّ وأجمَعُ للأدلَّةِ، وأبرَأُ للدِّينِ والذِّمَّةِ.
وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ قال: (الأَيِّمُ أحَقُّ بنَفْسِهَا)، وهو دليلٌ على اشتراكِ حقٍّ للوليِّ مع الثيِّبِ في نفسِها، ولكنَّها أَحَقُّ منه.
ومِثلُهُ لفظُ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ الآخَرِ؛ كما في "المسندِ" والنسائيِّ: "الْأَيِّمُ أَوْلَى بِأَمْرِهَا"(3)؛ أيْ: للولِيِّ وِلَايةٌ، وهي أَوْلى منه؛ فلا يُمضِيها إلَّا بأمرِها.
(1) أخرجه أحمد (2260)(1/ 250)، وأبو داود (2085)(2/ 229)، والترمذي (1101)(3/ 399)، وابن ماجه (1880)(1/ 605).
(2)
أخرجه أحمد (24205)(6/ 47)، وابن ماجه (1879)(1/ 605)، وأبو داود (2083)(2/ 229)، والترمذي (1102)(3/ 399).
(3)
أخرجه أحمد (2365)(1/ 261)، والنسائي (3262)(6/ 84).