الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
الكَتْبُ: هو الجَمْعُ عَلَى ما تقدَّم مِرَارًا، والمرادُ به هنا: جَمْعُ الأمرِ وتدوينُهُ شريعةً مِنَ اللهِ عَلَى أُمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ وهكذا كلُّ معاني قولِه: (كَتَبَ) أو (كَتَبْنَا) في القرآنِ.
وذكَرَ اللهُ هنا القتالَ ولم يذكُرِ الجهادَ؛ مبالغةً في إيضاحِ المقصودِ؛ لأنَّ لفظَ القِتَالِ أصرَحُ مِن لفظِ الجهادِ؛ فالجهادُ يُطلَقُ في القرآنِ قبلَ فرضِ القتالِ: على المجاهدةِ باللسانِ، والصبرِ على الأَذَى؛ كما في قولِهِ تعالى:{وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]، وذلك في مَكَّةَ، والمرادُ به القرآنُ.
الجهادُ شريعةُ أكثرِ الأنبياء:
ولم يكن القتال مِن خصائصِ الأُمَّةِ المحمديَّةِ؛ وإنَّما كان شِرْعةً لكثيرٍ مِن الأنبياءِ وأُمَمِهم؛ قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 146].
وما مِنْ نبيٍّ كانت له ولأُمَّتِه شَوْكةٌ إلا وشرَعَ اللهُ له الجهادَ لِمَنْ كابَرَ وعانَدَ؛ فقد فرَضَ اللهُ علي موسى عليه السلام ومَنْ معَهُ مِن بني إسرائيلَ قتالَ الكَنْعَانِيِّينَ، وفرَضَ اللهُ كذلك على بني إسرائيلَ القتالَ مع طَالُوتَ وهو شاوُلُ مع نبيِّ اللهِ داودَ عليه السلام.
ومَنْ لم تكنْ له شَوْكةٌ، لم يأمُرْهُ اللهُ بقتالِ مخالِفِيهِ والمعانِدِينَ له، بل كان اللهُ يأخُذُهُمْ بقُدْرتِهِ وإعجازِه، كقومِ نُوحٍ ولُوطٍ؛ فلم تكنْ لهم شوكةٌ وقوةٌ يأخُذُونَ بأسبابِها؛ فنُوحٌ ما {آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]، ولُوطٌ بيَّن عدَمَ قدرتِهِ على قومِهِ وعَجْزَهُ عن اتِّخاذِ أسبابِ القوةِ، فقال:
{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، قال قتادةُ: يعني: العَشِيرة، وقال السُّدِّيُّ: آوِي إلى جُنْدٍ شديدٍ، لَقَاتَلْتُكم (1).
وفيه: أنَّ القتالَ يسقُطُ مع الضعفِ والعجزِ، ويجبُ مع القوةِ والقدرةِ؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم في قولِ لوطٍ:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} : (كَانَ يَأْوِي إِلَى رَكْنٍ شَدِيدٍ؛ إِلَى رَبِّهِ عز وجل؛ فَمَا بُعِثَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ)؛ رواهُ أحمدُ والترمذيُّ (2)، والمرادُ بالثَّرْوةِ: الكثرةُ والمَنَعَةُ والقوةُ.
فالجهادُ مشروعٌ في كلِّ الشرائعِ، ولكنْ تضعُفُ أسبابُهُ فلا يقومُ، وإذا قَوِيَتْ أُقِيمَ، وكلُّ نبيٍّ وأُمَّةٍ بحَسَبِها.
وقد روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن ابنِ شهابٍ؛ قال:"الجهادُ مكتوبٌ عَلَى كلِّ أحدٍ، غَزَا أو قعَدَ؛ فالقاعدُ إنِ استُعِينَ به أعانَ، وإنِ استُغِيثَ به أغاثَ، وإنِ استُغنيَ عنه قعَدَ"(3).
وهو شريعةٌ لكلِّ الأممِ، لا كلِّ فردٍ منها، وفي هذه الأمَّةِ شريعةٌ على كلِّ فردٍ مِن الرجالِ، وأعلاهُ القتالُ بالنَّفْسِ، وأدناهُ بحديثِ النَّفْسِ، يسقُطُ الوجوبُ الأعلى بقيامِ مَن يكفِي، ولا يسقُطُ أدناهُ عن أحدٍ مكلَّفٍ مِن الرجالِ؛ ففي "الصحيحِ"؛ قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ)(4).
وحكى ابنُ جَرِيرٍ: أنَّ عامةَ المسلِمِينَ على أنَّ الأصلَ وجوبُهُ على الأفرادِ عملًا حتى يسقُطَ بمَنْ فيه كفايةٌ، وعَدَّهُ كالصلاةِ على الجنازةِ،
(1)"تفسير الطبري"(12/ 509).
(2)
أخرجه أحمد (8987)(2/ 384)، والترمذي (3116)(5/ 293).
(3)
"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 383).
(4)
أخرجه مسلم (1910)(3/ 1517)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.