الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكمُ المبيتِ بمنًى:
وفي الآيةِ: دليلٌ على وجوبِ المبيتِ أيامَ مِنًى؛ لأنَّ اللهَ رَخَّصَ للتعجِّلِ، ورفَعَ الإثمَ عنه، ولازِمُهُ: وقوعُ الحَرَجِ والإِثْمِ على تارِكِ المَبِيتِ كلِّه.
ويرخَّصُ لِمَنْ يقومُ بشأنِ الحاجِّ مِن الرُّعَاةِ والسُّقَاةِ والسائِقِينَ والخَدَمِ والعُمَّالِ والحُرَّاسِ بتركِ المبيتِ؛ كما رخَّصَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم للرعاةِ والسقاةِ بتركِ المبيتِ لصالحِ الناسِ لا لصالحِهم.
ومَن لم يَجِدْ موضعًا يَبِيتُ فيه، باتَ في أيِّ موضعٍ مِن مَكَّةَ على الصحيحِ، ولا يجبُ محاذاةُ مِنًى والقربُ منها؛ إذْ لا دليلَ عليه.
والمَبِيتُ الذي يسقُطُ به الواجبُ هو المبيتُ ليلًا؛ فلا يصدِّقُ على البقاءِ نهارًا: مَبيتٌ؛ لا في لغةِ العربِ، ولا في اصطلاحِ الشرعِ، وأكثرُ الليلِ أو شَطْرُهُ يتحقَّقُ به المبيتُ، ولا يَلْزَمُ من المبيتِ النومُ ولا الاضطجاعُ.
ولا يلزَمُ المَبِيتُ مَن لا يَجِدُ إلا سَكَنًا غاليًا، أو لا سَكَنَ له إلا الطُّرُقَاتُ؛ فليستْ موضعًا يجوزُ البقاءُ فيه؛ لِكَرَاهةِ ذلك؛ فالشارعُ نَهَى عن الجلوسِ في الطُّرُقاتِ إلَّا مِن بُدٍّ؛ فلا يُتعبَّدُ للهِ بذلك.
ولا يقيَّدُ وجوبُ المَبِيتِ بأنْ يصلُحَ المكانُ لمِثْلِهِ؛ وهذا شرطٌ لا وجهَ له؛ فإنَّ مِنًى منذُ تاريخِ الإسلامِ، وهي مُنَاخُ مَن سبَقَ إليها بسَهْلِها وجَبَلِها، وليس مِثْلُها مَبِيتًا لأحدٍ عادةً، وكان الأمراءُ والعلماءُ والوُجَهاءُ والأغنياءُ يَبِيتُونَ في موضعٍ واحدٍ مع المأمورينَ والجُهَّالِ والضعفاءِ والفقراءِ، ومَنْ وجَدَ مكانًا يَبِيتُ فيه غيرَ الطريقِ وما فيه مصالحُ الناسِ مِن الميادينِ العامَّةِ، وجَبَ عليه ولو كان وزيرًا أو أميرًا أو مَلِكًا.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208].
ذكَرَ اللهُ صفاتِ الناسِ ومَرَاتِبَهم؛ منهم: مَنْ يُريدُ الدُّنْيا، ومنهم: مَنْ يُرِيدُ حَسَنةَ الدُّنْيا والآخِرةِ، ومنهم. مَنْ يَشْرِي نفسَهُ ابتغاءَ مَرْضاةِ اللهِ، ومنهم: مَنْ يُضمِرُ الشَّرَّ للناسِ والإفسادَ لهم، ويُقسِمُ على خلافِ ذلك، ثمَّ خاطَبَ اللهُ بندائِهِ أهلَ الإيمانِ أنْ يدخُلُوا في السِّلْمِ كافَّةً، والسِّلْمُ: بكسرِ السينِ وفتحِها، مع سكونِ اللامِ؛ قرَأَ نافعٌ وابنُ كَثِيرٍ والكِسَائيُّ وأبو جعفرٍ: بفتحِ السينِ، والباقونَ مِن العشرةِ: يَقرؤونَها بكسرِ السينِ، وهو مشتقٌّ مِن السَّلَامةِ، وهو الاستسلامُ والانقيادُ لِمَا أُمِرَ به الإنسانُ أو أَلْزَمَ به نفسَهُ.
و"السِّلْمُ" في كلامِ المفسِّرينَ مِن السلفِ والخلفِ محمولٌ على مَعَانٍ، جِمَاعُها مَعْنَيَانِ:
أوَّلُهما: الاستسلامُ للهِ والانقيادُ له؛ بالدخولِ في دِيِنِهِ وامتثالِ أمرِهِ ونهيِهِ:
ويُطلَقُ السِّلْمُ في كلامِ العربِ، ويرادُ به: الانقيادُ لله والاستسلامُ له بدين الإسلام؛ قال امْرُؤُ القَيْسِ بنُ عابسٍ الكِنْدِيُّ، حينَما ارتَدَّ قومُهُ عن الإسلامِ:
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا
…
رَأَيْتُهُمُ تَوَلَّوْا مُدْبِرِينَا
فَلَسْتُ مُبَدِّلًا بِاللهِ رَبًّا
…
وَلَا مُسْتَبْدِلًا بِالسِّلْمِ دِينَا
وهذا الذي عليه المفسِّرونَ مِن السلفِ؛ رواهُ ابنُ جريرٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ؛ قال:"السِّلْمُ: الإسلامُ"(1).
ورواهُ العَوْفِيُّ عن ابنِ عباسٍ.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 595).
وجاء عن قتادةَ والسُّدِّيِّ والضحَّاكِ والربيعِ (1).
وروى ابنُ جريرٍ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عِكْرِمةَ؛ قولَه:{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} ؛ قال: نزَلَتْ في ثَعْلَبةَ، وعبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ، وابنِ يَامِينَ، وأَسَدٍ وأُسَيْدٍ ابنَيْ كعبٍ، وسَعْيَةَ بنِ عمرٍو، وقيسِ بنِ زَيْدٍ - كلُّهم مِن يَهُودَ - قالوا: يا رَسُولَ اللهِ، يومُ السبتِ يومٌ كُنَّا نُعَظِّمُهُ، فَدَعْنَا فَلْنُسْبِتْ فيه! وإنَّ التَّوْراةَ كتابُ اللهِ، فدَعْنا فلْنَقُمْ بها بالليلِ! فنزَلَتْ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (2).
وهذا المعنى في الآيةِ هو كمعنى الآياتِ الدالَّةِ على وجوبِ دخولِ الناسِ في الإسلامِ وحدَهُ لا سواهُ؛ كقولِهِ تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وقولِ اللهِ تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وما في البخاريِّ؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ)(3).
وما في "صحيحِ مسلمٍ"، عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ قال:(وَالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالذي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)(4).
ومعنى الآيةِ هذا: هو الصحيحُ، والذي عليه المفسِّرونَ مِن السلفِ؛ وهو الأرجحُ.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 595 - 596)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 370).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 599 - 600).
(3)
أخرجه البخاري (438)(1/ 95).
(4)
أخرجه مسلم (153)(1/ 134).