الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنى "سبيلِ الله" في القرآن:
وأغلبُ استعمالِ الكتابِ والسُّنَّةِ لسبيلِ اللهِ يرادُ به الجهادُ؛ تعظيمًا له، وبيانًا لكبيرِ مصلحةِ الدِّينِ بالقيامِ به؛ فبِه يَقْوَى المسلِمُونَ ويضعُفُ عدوُّهم، وما تركَتْ أمَّةُ الإسلامِ الجهادَ إلَّا ذَلَّتْ، فتَرْكُ الجهادِ إضعافٌ لسبيلِ اللهِ، وتقطيعٌ له، وزيادةُ حَيْرةٍ للسالِكينَ له؛ فالخلافُ سُنَّةٌ في البَشَرِ في حياتِهم، فالأمَّةُ تَتَخَاصَمُ فيما بينَها إن لم تَجِدْ خَصْمًا خارِجَها؛ لهذا شرَعَ اللهُ الجهادَ للانشغالِ بالخَصْمِ الأكبَرِ عنِ الخصوماتِ الفرعيَّةِ بين المسلِمِينَ، وإذا انصرَفَتِ الأُمَّةُ عن قتالِ عدوِّها الأكبرِ وخَصْمِها الأعلى، انشغَلَتْ فيما بينَها بخصوماتٍ أدنى، وكلَّما ترَكَتِ الخصوماتِ ومواضِعَ الخلافِ الأولى، نزلَت إلى الأدنى؛ حتَّى تَنشغِلَ الأمَّةُ بحِزْبيَّاتِ وعَصَبيَّاتِ اللَّوْنِ والنَّسَبِ والبلَدِ، حتَّى يكونَ الخلافُ في أهلِ الحيِّ الواحدِ؛ شرقيُّهُ يُخاصِمُ غربيَّهُ.
وعدمُ شُغْلِ النفوسِ بعدوِّها الأعلى يَدْعُوها للانشغالِ بما دُونَهُ، ثمَّ تضعُفُ ويُصِيبُها الشقاقُ والنفاقُ، ثُمَّ تتفتَّتُ؛ ولهذا وجَبَ الانشغالُ بالغَزْوِ ولو بحديثِ النفسِ؛ لتنشغِلَ النفوسُ بعضُها عن بعضٍ، ولِتَعْمُرَ قلوبُ المسلِمِينَ ولو فِكْرًا بالعدوِّ الأكبَرِ؛ ففي الحديثِ:(مَنْ لم يَغْزُ، أَوْ يُجَهِّزُ غازِيًا، أَوْ يَخْلُفْ غازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أصَابَهُ اللهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)؛ رواهُ أبو داودَ وابنُ ماجه (1).
قال تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 39].
وفي الحديثِ السابقِ: ما يوافِقُ الآيةَ؛ أنَّ ترْكَ الجهادِ والإنفاقِ عليه هلاكٌ للأُمَّةِ؛ ففي قولِهِ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، و"أصابَهُ اللهُ بقارِعةٍ" إشارةٌ إلى أنَّ الأُمَّةَ إن لم تجاهِدْ عَدُوَّها، أو لم تُعِنِ المجاهِدَ
(1) أخرجه أبو داود (2503)(3/ 10)، وابن ماجه (2762)(2/ 923).
وتركَتْهُ، أهلَكَها اللهُ وأصابَها بقارعةٍ، فيسلِّطُ اللهُ عليها سببًا يُهلِكُها به؛ إمَّا فِتْنةً مِن داخِلِها، أو عدوًّا مِن خارِجِها.
روى ابنُ أبي حاتمٍ؛ مِن حديثِ منصورٍ؛ قال: سَمِعْتُ أبا صالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابنَ عَبَّاسٍ يقول فِي قَوْلِ اللهِ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ؛ قالَ: "أَنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ لم تَجِدْ إِلَّا مِشْقَصًا"(1).
وروى عنِ الأَعْمَشِ، عن أبي وائِلٍ، عن حُذَيْفةَ، في قَوْلِ اللهِ:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، قَالَ:"يَعْنِي فِي تَرْكِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ"(2).
وعامَّةُ المفسِّرينَ على هذا التأويلِ؛ كابنِ عَبَّاسٍ، وعِكْرِمةَ، والحسَنِ، ومجاهِدٍ، وعطاءٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وأبي صَالِحٍ، والضَّحَّاكِ، والسُّدِّيِّ، ومقاتِلِ بنِ حَيَّانَ، وقَتَادةَ، وغيرِهم.
ويزعُمُ بعضُ الناسِ: أنَّ الآيةَ في عدَمِ الإضرارِ بالنفسِ في أسبابِ المرضِ أو الموتِ؛ كالتعرُّضِ لعدوٍّ، أو تَرْكِ التطبُّبِ، ونحوِ ذلك.
وهذا التعيينُ لمعنى الآيةِ خطأٌ، وإنْ كان هذا المعنى يدخُلُ فيها، لكنَّه ليس مرادًا مِن نزولِ الآيةِ؛ فقد روى أبو إسحاقَ، عنِ البَرَاءِ؛ قال: سألَهُ رجلٌ: أَحْمِلُ على المشرِكِينَ وَحْدِي فيَقْتُلوني؛ أكنتُ أَلْقَيْتُ بيَدِي إلى التَّهْلُكةِ؟ فقال: لا؛ إنَّما التَّهْلُكةُ في النَّفَقَةِ؛ بعَثَ اللهُ رسولَهُ، فقال:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء: 84](3).
وقد صَحَّ عن عَبِيدةَ السَّلْمانِيِّ؛ قال: "هو الرَّجُلُ يُذنِبُ الذَّنْبَ فيَستسلِمُ، يقولُ: لا تَوْبَةَ لي! فيُلقي بيَدِه"(4).
وذلك أنَّه استدَلَّ بعمومِ الآيةِ، وهذا صحيحٌ، ولكنَّ أوَّلَ ما يدخُلُ في معانيها ما نزَلَتِ الآيةُ لأَجْلِهِ، وهو النفقةُ في سيبلِ اللهِ، والتحذيرُ مِن تَرْكِها.
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 330).
(2)
"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 331).
(3)
"تفسير الطبري"(3/ 319).
(4)
"تفسير الطبري"(3/ 321).