الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسيرُ ذلك إلى الخاصَّةِ العالمةِ، ولا يُفضِي إلى إفسادِ دينهِم ودُنياهم مع السلطانِ المعطِّلِ لحكمِ اللهِ؛ بحيثُ يقتُلُهم أو يَحْبِسُهم -: فالأصلُ وجوبُ إقامتِهم لحكمِ اللهِ فيما بينَهم بتوليةِ واحدٍ منهم؛ إذا انتفَت تلك المفاسدُ الكبرى.
فالشريعةُ جاءتْ بالحدودِ لضبطِ حياةِ الناسِ وأَمْنِهم وإعادةِ حقوقِهم، فإذا أفْضَى حكمُهم بينهم بذلك إلى مفسدةٍ أكبَرَ بتسلُّطِ حاكمٍ ظالمٍ يُفسِدُ مِن دينِهِم ودُنياهم ما يسعَوْنَ إلى إصلاحِهِ -: فلا يجوزُ لهم فعلُه.
وما يَجِدُونَ فيه فُسْحةً - خاصَّةً مِن المسلِمينَ مِن الأقليَّاتِ في دولِ الكفرِ - فيجبُ عليهم الحكمُ بشرعِ اللهِ؛ كعُقُودِ زواجِهم بينَهم، ومَن رضِيَ وقَبِلَ منهم أنْ يُنزِلُوهُ على حكمِ اللهِ في شربِهِ للخمرِ والزِّنى والقتلِ وعقودِ البيوعِ، وجَبَ عليهم إمضاؤُها على حكمِ اللهِ، ولو لم يَرجِعوا إلى الحاكمِ المعطِّلِ.
الحالُ الثانيةُ: إذا كان هذا يُفضِي إلى مفسدةٍ بتسلُّطِ حاكمٍ ظالمٍ، فيُفسِدُ مِن دُنياهم أعظمَ ممَّا يَرْجُونَ صلاحَهُ، أو يَجْعَلُ تفسيرَ الحدودِ والقِصَاصِ وبيانَها إلى الأفرادِ يَجتَهِدُونَ بجهلٍ وعلمٍ، ويُفضِي إلى الثأرِ والانتقامِ، فهذا مفسدتُهُ ظاهرةُ العمومِ؛ فلا يجوزُ، ومعرفةُ ذلك وضبطُهُ للعالِمِ العارِفِ بأحوالِ الناسِ وقضايا الأعيانِ، وليس بحكمٍ مشوبٍ بهوًى، فالشريعةُ جاءتْ لضبطِ حالِ الناسِ العامِّ والخاصِّ.
مسألةٌ: في إقامةِ الحدودِ على المَوَالِي:
أمَّا الإماءُ والعبيدُ، فذهَبَ جمهورُ العلماءِ: إلى جوازِ إقامةِ الحدِّ على العبدِ مِن سيِّدِه؛ ذهب إلى هذا مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ، وهو قولُ
أكثرِ الصحابةِ والتابعينَ، وعليه عملُهم (1).
وجاء عن مالكٍ استثناءُ حدِّ القطعِ في السرقةِ، وجعَلَهُ لوليِّ الأمرِ بكلِّ حالٍ (2).
ويرى أبو حنيفةَ: أنَّ ذلك كلَّه للإمامِ، وفي مذهبِ الحنفيَّةِ قولٌ: أنَّه لا يُقيمُ السيدُ الحدَّ على عبدِه إن كان عبدُهُ زوجًا لحُرَّةٍ، أو لِأَمَةِ غيرِه، أو كانتْ أَمَتُهُ زوجةً لحُرٍّ، أو لعبدِ غيرِه؛ ففي هذه الصورِ لا يُقيمُ الحدَّ إلا الإمامُ فقط (3).
وهذا مرويٌّ عن ابنِ عمرَ؛ كما رواهُ عبدُ الرزَّاقِ، عن الزُّهْريِّ، عن سالمٍ، عن ابنِ عمرَ؛ قال في الأَمَةِ إذا كانت ليست بذاتِ زوجٍ، فزَنَتْ: جُلِدَتْ نِصفَ ما على المُحْصناتِ مِن العذابِ؛ يَجلِدُها سيِّدُها، فإن كانت مِن ذواتِ الأزواجِ، رُفِعَ أمرُها إلى السلطانِ (4).
والأصلُ: أنَّ الحدودَ على الإماءِ والعبيدِ يُقِيمُها أَهْلُوهُمْ في حالِ قيامِ البيِّنةِ.
والبيِّنةُ في حقِّ الإماءِ كالبيِّنةِ في حق الحرائرِ لا فَرْقَ؛ فقد روى الشيخانِ، عن أبي هُرَيْرةَ رضي الله عنه؛ قال: سَمِعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِن زَنَتْ، فَليَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَبِعْهَا وَلَو بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ)(5).
والخطابُ توجَّهَ هنا إلى سيِّدِها، ولكنَّه أمرَ بالاستيثاقِ في قولِهِ:
(1)"المدونة"(4/ 519)، و"البيان في فقه الشافعي"(12/ 380)، و"المغني"(9/ 51)، و"الاستذكار"(7/ 508).
(2)
"المدونة"(4/ 519).
(3)
"المبسوط"؛ للسرخسي (9/ 139).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(13610)(7/ 395).
(5)
أخرجه البخاري (2152)(3/ 71)، ومسلم (1703)(3/ 1328).
(فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا)، وأمرَ بعدمِ التعدِّي والتعنيفِ في قولِه:(وَلَا يُثَرِّبْ)؛ فإنَّ الزيادةَ عن الحدِّ ظلمٌ، وحدُّ الأَمَةِ نصفُ حدِّ الحُرَّةِ، كما يأتي بيانُهُ بإذنِ اللهِ.
ويظهرُ الخطابُ متوجِّهًا إلى السيدِ فيما روى مسلمٌ، والتِّرمِذيُّ، وغيرُهما؛ مِن حديثِ أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيِّ؛ قال: خطَبَ عليٌّ رضي الله عنه، فقال: أيُّها الناسُ، أَقِيمُوا الحدودَ على أَرِقَّائِكم؛ مَن أَحْصَنَ منهم ومَن لم يُحْصِنْ؛ فإنَّ أَمَةً لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم زنَتْ فأَمَرَني أنْ أَجلِدَها، فإذا هي حديثُ عهدٍ بالنفاسِ، فخَشِيتُ إنْ أنا جَلَدتُّها أنْ تموتَ، فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبَرتُه، فقال:(أَحْسَنْتَ، اتْرُكْهَا حَتَّى تَمَاثَلَ)(1).
وهذا هو عملُ الصحابةِ والتابعينَ، ومِثلُ هذا العملِ إذا وقَعَ في زمنِهم يشتهِرُ ويستفيضُ ويَصِلُ إلى الحاكمِ والمحكومِ، وإذْ لم يُعارَضْ صريحًا مِن إمامِ المسلِمينَ حِينَها، دلَّ على جوازِهِ وصحةِ وقوعِه.
قال ابنُ عبدِ البَرِّ: "رُوِيَ عن جماعةٍ مِن الصحابةِ: أنَّهم أقامُوا الحدودَ على ما ملَكَتْ أيمانُهم؛ منهم ابنُ عمرَ، وابنُ مسعودٍ، وأنسٌ، ولا مخالِفَ لهم مِن الصحابةِ"(2).
فقد روى ابن أبي شَيْبةَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلَى؛ قال:"أدرَكْتُ أشياخَ الأنصارِ إذا زنَتِ الأَمَةُ، يَضرِبونَها في مَجالِسهم"(3).
وروى نافعٌ، عن ابنِ عمرَ:"أنَّه كان يضرِبُ أمَتَهُ إذا فجَرَتْ"(4).
وأخرَجَ عبدُ الرزَّاقِ، ومِن طريقِه ابنُ حزمٍ في "المحلَّى"، عن
(1) أخرجه مسلم (1705)(3/ 1330)، والترمذي (1441)(4/ 47).
(2)
"الاستذكار"(7/ 508).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (28284)(5/ 491).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (28282)(5/ 491).
نافعٍ: "أنَّ ابنَ عمرَ قطَعَ يدَ غلامٍ له سرَقَ، وجلَدَ عبدًا له زَنَى؛ مِن غيرِ أن يرفَعَهما"(1).
ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ - كما رواهُ سعيدُ بنُ منصورٍ في "السُّننِ"، ومِن طريقِه البيهقيُّ في "الكُبرى"، والطبرانيُّ في "الكبيرِ"، عن عمرِو بنِ شُرَحْبِيلَ:"أنَّ مَعْقِلَ بنَ مُقَرِّنٍ أتى عبدَ اللهِ، فقال: عبدي سرَقَ مِن عندي قَبَاءً؟ قال: مالُكَ سرَق بعضُه في بعضٍ، قال: أظنُّه ذَكَرَ: أَمَتي زنَتْ؟ ! قال: اجلِدْها، قال: إنَّها لم تُحْصَنْ؟ قال: إحصانُها إسلامُها"(2).
وروى عبدُ الرزَّاقِ، عن الثوريِّ، عن إبراهيمَ:"أنَّ مَعْقِلَ بنَ مُقَرِّنٍ المُزَنِيَّ جاء إلى عبدِ اللهِ، فقال: إنَّ جاريةً لي زنَتْ؟ فقال: اجلِدْها خَمْسِينَ، قال: ليس لها زوجٌ؟ قال: إسلامُها إحصانُها"(3).
وروى ابنُ أبي شَيْبةَ أيضًا، عن إبراهيمَ، عن عَلْقمةَ والأسودِ:"أنَّهما كانا يُقيمانِ الحدودَ على جَوَارِي الحيِّ إذا زَنَيْنَ في المجالسِ"(4).
وكان الصحابةُ يُفْتُونَ بذلك ويأمُرونَ بإقامةِ السيِّدِ الحدَّ على أَمَتِهِ مِن غيرِ أمرٍ بإرجاعِ ذلك إلى وليِّ الأمرِ؛ كما روى ابنُ أبي شَيْبةَ، عن إبراهيمَ، عن همامٍ، عن عمرِو بنِ شُرَحْبِيلَ؛ قال:"جاءَ مَعْقِلٌ المُزَنيُّ إلى عبدِ اللهِ، فقال: جاريتي زنَتْ، فأَجْلِدُها؟ فال: فقال عبدُ اللهِ: اجلِدْها خمسينَ، فقال: عادتْ؟ فقال: اجلِدْها"(5).
وذلكَ أنَّ الأمَةَ والعبدَ مِن جملةِ مِلْكِ السيدِ، فيملِكُ بيعَهُ وشراءَهُ،
(1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنَّفه"(18979)(10/ 239)، وابن حزم في "المحلَّى"(12/ 74).
(2)
أخرجه سعيد بن منصور (773)(4/ 1520)، والبيهقي في "الكبرى"(8/ 243)، والطبراني في "الكبير"(9692)(9/ 340).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(13604)(7/ 394).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(28285)(5/ 492).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(28277)(5/ 491).
فيملِكُ تأديبَهُ من بابِ أَولى؛ فالتأديبُ شيءٌ عارضٌ، والمِلْكُ دائمٌ، فلمَّا جازَ شرعًا المِلْكُ الدائمُ، جاز التأديبُ العارضُ.
ولوليِّ الأمرِ إذا فَشَا ظلمُ العبيدِ والإماءِ أن يكِلَ الأَمْرَ إليه؛ وذلك أنَّ الشريعةَ جاءتْ بدفعِ المفاسدِ، فإذا كانتْ تتحقَّقُ المصلحةُ بإقامةِ الحدِّ مِن الوالي مِن غيرِ تفريطٍ، فله ذلك، وإلا فتركُهُ للناسِ هو الأصلُ، وعليه عملُ الصحابةِ والتابعينَ؛ فقد روى عبدُ الرزَّاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهريِّ؛ قال:"مضَتِ السُّنَّةُ أنْ يَحُدَّ العبدَ والأمَةَ أهلوهما في الفاحشةِ، إلا أنْ يُرفَعَ أمرُهما إلى السُّلْطانِ؛ فليس لأحدٍ أن يَفْتَئِتَ على السلطانِ"(1).
والرفعُ عن أصلٍ لا يكونُ إلا بتحقُّقِ مفسدةٍ ظاهرةٍ مِن بقاءِ الأصلِ لا يُمكِنُ تلافِيها ببقائِه، فإذا تحقَّقتِ المصلحةُ بالإمامِ، فيجوزُ رفعُهُ إليه.
* * *
قال تعالى {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58].
أمَرَ اللهُ بَني إسرائيلَ بالسجودِ عندَ دخولِ بيتِ المَقْدِسِ، وهي القريةُ المذكورةُ في الآيةِ، وهذا هو الأشهرُ؛ قاله ابنُ عباسٍ (2)، ومجاهد (3)، وقتادةُ والسُّدِّيُّ والربيعُ (4).
(1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(13606)(7/ 394).
(2)
ينظر: "زاد المسير"(1/ 68) ، و"البحر المحيط"(1/ 356).
(3)
ينظر: "تفسير البغوي"(1/ 98).
(4)
ينظر: "تفسير الطبري"(1/ 712، 713).