الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التتابُعُ في قضاءِ الصومِ:
وقولُه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} دليلٌ على عدمِ وجوبِ التتابُعِ في القضاءِ وبهذه الآية استدل أحمد على ذلك (1)؛ فاللهُ تعالى أمَرَ بالإتيانِ بالعَدَدِ، ولم يأمُرْ بالزيادةِ عليه، وكما أنَّه لم يأمُرْ بالتعجيلِ بالقضاءِ، دَلَّ على أنَّ في الأمرِ سَعةً، ولكنَّنا نقولُ بتفضيلِ التعجيلِ، وكذلك بتفضيلِ التتابُعِ؛ لأنَّ التتابُعَ يقتضي تعجيلَ الأيَّامِ التاليةِ لأوَّلِ يومٍ يقضيه، والتعجيلَ يقتضي تتابُعَ الأيَّامِ كلِّها مع أوَّلِ استطاعةٍ بعدَ رمضانَ.
والتَّعجيلُ مستحَبٌّ، والقولُ بوجوب التتابُعِ مرجوحٌ، ولا تعضُدُهُ الأدلَّةُ ولا القياسُ؛ فالإنسانُ ربَّما يُفطِرُ أيَّامًا مِن أوَّلِ رمضانَ وأيَّامًا مِن أوسطِهِ وآخِرِه، والإلزامُ بِجَعْلِ القضاءِ متتابِعًا؛ لأنَّ القضاءَ يحكي الأداءَ: لا يتَّفقُ هنا؛ فكيف يُؤمَرُ بالمتابَعَةِ بينَ أيَّامٍ ليستْ متتابِعةً في الأداءِ؟ ! ثم إنَّ الدليلَ دلَّ على تفاضُلِها فيما بينَها؛ فلأوَّلِ رمضانَ فضلٌ يختلِفُ عن أوسطِه وعن آخِرِه؛ كما جاء في بعضِ الأخبارِ، وليالِيهِ تتفاضَلُ وكذلك أيَّامُه، وأكثرُ المفسِّرينَ والفقهاءِ مِن السَّلَفِ على عدمِ وجوبِ التتابُعِ في القضاءِ.
روى ابنُ أبي حاتم، عن داوُدَ بنِ أبي هِنْدٍ، عن عِكْرِمةَ، عن ابنِ عَبَّاسٍ:"إِنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ؛ لأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} "(2).
وقد صحَّ هذا المعنى عن غيرِ واحدٍ مِن الصحابةِ؛ أنَّ المقصودَ هو إحصاءُ أيَّامِ القضاءِ عَدًّا، وليس الإتيانَ بها سَرْدًا؛ فقد صَحَّ عن عطاءٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ وأبي هُرَيْرةَ؛ قالا في قضاءِ رَمَضانَ:"فَرِّقْهُ إنْ شئتَ، حَسْبُكَ إذا أحصيتَهُ"(3).
(1) مسائل ابن هاني (1/ 134)، ومسائل صالح (263).
(2)
"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 306).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7664)(4/ 243).
وذلك أنَّ اللهَ أمَرَ بالعَدَدِ، ولم يأمُرْ بصفةٍ يكونُ عليها العددُ.
وهذا قول أكثرِ العلماءِ؛ فقد رُوِيَ عن أبي عُبَيْدةَ عامرِ بنِ الجَرَّاحِ، ومعاذٍ، وعمرِو بنِ العاصِ، وأَنَسٍ، وأبي هريرةَ.
ورُوِيَ أيضًا عن عَبِيدةَ السَّلْمانيِّ وعُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ وابنِ المسيَّبِ وسالمٍ وعطاءٍ وعِكْرِمةَ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ والنَّخَعيِّ وقتادةَ وطاوسٍ.
وقال به مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وجماعةٌ من فقهاءِ الكوفةِ؛ كأبي حنيفةَ والثَّوْريِّ، ومِن أهلِ الشامِ؛ كالأوزاعيِّ (1).
ورُوِيَ عن بعضِ السَّلَفِ القولُ بالقضاءِ متتابعًا؛ كعليِّ، وابنِ عُمَرَ، وعُرْوةَ، والشَّعْبيِّ، وابنِ سِيرِينَ (2).
ولكنَّ القولَ المرويَّ عنهم ليس صريحًا في الوجوبِ، كالمرويِّ عنِ ابنِ عمرَ فيما رواهُ نافعٌ؛ أنَّه كان يُتابعُ في قضاءِ رمضانَ (3).
وهذا إنَّما هو فعلٌ مجرَّدٌ يقولُ باستحبابِهِ غيرُهُ من الصحابِة، والمرويُّ عن عليِّ يَرْوِيهِ عنه الحارثُ الأعورُ (4).
واستحبابُ التتابُعِ هو فرعٌ عن استحبابِ التعجيلِ ، والسَّلَفُ لا يختلِفونَ في فضلِ التعجيلِ.
وتعجيلُ القضاءِ ولو متفرِّقًا أفضلُ من تأخيرِهِ متتابِعًا؛ لأنَّ المقصودَ إبراءُ الذِّمَّةِ، وإبراءُ الذِّمَّةِ أَولى مِن تحقُّقِ التتابعِ المتأخِّرِ.
والأمرُ بالتتابُع كان ثمَّ نُسِخَ؛ فقد روى عروةُ، عن عائشةَ؛ قالتْ: نزلَتْ: "مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ متتابعاتٍ"، ثم سقَطَتْ "مُتَتَابعاتٍ"(5).
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 306).
(2)
"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 307).
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 260).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7660)(4/ 242).
(5)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7657)(4/ 241).