الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمحتسِبِينَ والحُرَّاسِ، أوِ العُمَّالِ والصُّنَّاعِ الذين يتناوَبونَ على عملٍ لا ينقَطِعُ؛ فإنَّ نومَهُ سيكونُ نهارًا، فصلاةُ النهارِ في حَقِّهِ أعظَمُ؛ لأنَّها أشقُّ؛ هذا مِنْ جهةِ المشقَّةِ.
وللصلواتِ فضلٌ مِن جهاتٍ أُخرى لا يُلْغِيهِ تقلُّبُ الزمانِ وتغيُّرُ المكانِ والحالِ؛ كفَضْلِ الفجرِ لشهودِ الملائكةِ لها: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، وصلاةِ البَرْدَيْنِ، وصلاةِ الليلِ لنزولِ الرحمنِ في الثلثِ الأخيرِ مِن الليلِ؛ فلا يقالُ: إنَّ صلاةَ النهارِ أفضَلُ مِن صلاةِ الليلِ لِمَن يَسهَرُ الليلَ وينامُ النهارَ؛ لأنَّ فضلَ قيامِ الليلِ لنزولِ الرحمنِ وخفاءِ العبادةِ فيه عنِ الناسِ؛ وهذا ثابتٌ لا يتحوَّلُ مع تغيُّرِ حالِ الفردِ في نفسِهِ، ولكنَّ أسبابَ التفضيلِ تتنوَّعُ، واجتماعُها في عبادةٍ أقوى مِن تفرُّقِها في عباداتٍ.
وربَّما كان هذا الوجهُ هو ما جعَلَ بعضَ السلفِ كابنِ عُمَرَ يَمِيلُ إلى أنَّها ليست في صلاةٍ معيَّنةٍ وأنَّها عامَّةٌ؛ وهذا ما مال إليه ابنُ عبدِ البَرِّ وابنُ العرَبِيِّ المالكيَّان، وقال به إمامُ الحرَمَيْنِ مِن الشافعيَّةِ، وغيرُهم.
ولابنِ عُمَرَ قولٌ في تعيينِها تقدَّمَ، ولعلَّ قولَهُ في عدَمِ تعيينِها؛ حتَّى لا يَتَّكِلَ الناسُ على الوُسْطَى ويفرِّطوا في غيرِها، ورُوِيَ هذا المعنى عن بعضِ السلفِ؛ كالرَّبيعِ بنِ خُثَيْمٍ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ وغيرِهما.
الكلامُ في الصلاةِ:
وقولُهُ تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ؛ فُسِّرَ القنوتُ على معانٍ عِدَّةٍ، وكلُّها دالَّةٌ بالصيغةِ أوِ اللزومِ على الخشوعِ وأهميَّتِه.
وفي الآيةِ: وجوبُ تركِ الكلامِ في الصلاةِ إلَّا المشروعَ؛ ففي "الصحيحَيْنِ"؛ عن زيدِ بنِ أرقمَ، قال: "كان الرَّجُلُ يُكَلِّمُ صاحِبَهُ في عهدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الحاجةِ في الصَّلَاةِ، حتَّى نزَلَتْ هذه الآيةُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ}؛ فأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ" (1).
والنهيُ عنِ الكلامِ في الصلاةِ كان بِمَكَّةَ قبلَ الهجرةِ، والآيةُ مدنيَّةٌ أَكَّدَتِ الحُكْمَ وثَبَّتَتْهُ، وربَّما استدَلَّ به زيدٌ على الحُكْمِ، وهذا لا يُنافي ثبوتَهُ سابقًا، وهذا يَرِدُ كثيرًا في تفسيرِ السلفِ؛ يستدِلُّونَ بدليلٍ نزَلَ في مناسَبةٍ لاحقةٍ على ما يشابِهُها مِن المناسَباتِ السابقةِ، فيَذْكُرونَ الدليلَ بِما يُفهَمُ منه أنَّه سببُ النزولِ فيها؛ فيُظَنُّ أنَّ السلفَ اختَلَفُوا في سببِ النزولِ.
وقد جاءَ عنِ ابنِ مسعودٍ؛ قال: "كنَّا نُسَلِّمُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبلَ أنْ نُهاجِرَ إلى الحَبَشةِ، وهو في الصَّلَاةِ، فيَرُدُّ علينا، قال: فلمَّا قَدِمْنَا، سَلَّمْتُ عليه، فلم يَرُدَّ عَلَيَّ، فأَخَذَني مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، فلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ: (إِنَّي لَمْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ فِي الصَّلَاةِ، وإنَّ اللهَ عز وجل يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَلَّا يُتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ"(2).
وفي "صحيحِ مسلمٍ"؛ أنَّه صلى الله عليه وسلم قالَ لمعاويةَ بنِ الحكَمِ السُّلَميِّ، حِينَ تكلَّمَ في الصلاةِ:(إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)(3).
وقد فسِّرَ القنوتُ بالطاعةِ؛ وهو مرويٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ وعطاءٍ والشَّعْبيِّ ومجاهِدٍ وطاوُسٍ وغيرِهم، والمرادُ بالطاعةِ: الإخلاصُ والتجرُّدُ له بالتعبُّدِ؛ ولذا قالَ: {لِلَّهِ} ؛ أي: لا لغيرِه.
وهذا أعمُّ وأوسَعُ المعاني في تأويلِ القنوتِ، ويدخُلُ فيه غيرُهُ مِن التفاسيرِ الأخرى؛ كتفسيرِ القنوتِ بالسكوتِ، وهو الإمساكُ عنِ الكلامِ
(1) أخرجه البخاري (1200)(2/ 62)، ومسلم (539)(1/ 383).
(2)
أخرجه أحمد (3575)(1/ 377)، والنسائي (1221)(3/ 19).
(3)
أخرجه مسلم (537)(1/ 381).