الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معرفةُ أقوالِ الصحابةِ والتابعينَ:
ولا غِنًى للمفسِّرِ عن كلامِ السلفِ صحابةً وتابعينَ، فقد فضَّلَهُمُ اللهُ على مَن بعدَهُم، وفيهم مِن فَصاحةِ اللِّسانِ وقُوَّةِ البيانِ ما ليسَ فيمَن بعدَهم، مع ما هُم عليه مِن الصِّدْقِ والدِّيَانةِ والحِيَاطةِ في الكلامِ، والتحرِّي في تفسيرِ كلامِ الله أَشَدُّ مِن غيرِه، وقد رَوَى أحمدُ - كما في "العلل" - عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ قال:"أَدْرَكتُ بالمدينةِ رِجالًا، فرأيْتُهم يُعَظِّمُون القولَ في التفسيرِ ويهابُونَه، مِنهم القاسِمُ وسالِمٌ ونافِعٌ"(1).
وفي الصحابةِ مِن شِدَّةِ التوثُّقِ في التفسيرِ ما ليس في التابعينَ، مع فَضْلِهم وتزكيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم -لهم، فلم يَحْمِلْهُم ذلك على الجَسَارَةِ على الفُتْيَا والقولِ بالظَّنِّ، وكانوا أشَدَّ الأُمَّةِ مشاوَرَةً ومراجَعَةً لبعضِهم في كلِّ نازِلةٍ، كما قالَ المُسَيَّبُ بنُ رافِعٍ:"كان الصحابة إذا نَزَلَتْ بِهِم قَضِيَّةٌ؛ ليس لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيها أَثَرٌ؛ اجتَمَعُوا لها وأَجمَعُوا"؛ رواه الدارِمِيُّ (2).
ولهذا كان قولُ الصحابةِ في صدرِ أقوالِ الأُمَّةِ، ومَن بَعدَهم تَبَعٌ لهم، فكُلُّ صوابٍ هُم أوْلَى الناسِ به، وكُلُّ خَطَإٍ هُم أَقَلُّ الناسِ حَظًّا فيه، ولم يُتَّهَمْ واحدٌ بالجُرْأَةِ على تفسيرِ كلامِ الله، والقولِ فيه بالتَّوَهُّمِ؛ لشِدَّةِ تعظيمِهم للهِ ولكلامِه والقولِ عليه بلا عِلْمٍ، وقد قال ابنُ أبي زَيْدٍ القَيْرَوَانِيُّ - كما في "الذب عن مذهب مالك" -:"وما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن أهلِ السُّنَّةِ تجاسَرَ على أنَّ صاحِبًا لرسولِ الله خالَفَ ظاهِرَ كتابِ الله"(3)
(1)"العلل ومعرفة الرجال لأحمد، رواية ابنه عبد الله"(2/ 374).
(2)
"سُنَن الدارمي"(116).
(3)
"الذب عن مذهب مالك"(2/ 689).
وكان أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ يرى أنَّ الأخذَ بظاهِرِ الآيةِ بلا دلالةٍ مِن السُّنَّةِ ولا قولِ أحدٍ مِن الصحابةِ: أنَّه تأويلُ أهلِ البِدَعِ، كما قال:"مَن تأوَّلَ القرآنَ بلا دلالةٍ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدٍ مِن الصحابةِ فهو تأويلُ أهلِ البدع؛ لأنَّ الآيةَ قد تكونُ خاصَّةً ويكونُ حكمُها حكمًا عامًّا، ويكونُ ظاهِرُها في العمومِ وإنما قُصِدَت لشيءٍ بعَيْنِه، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المعبِّرُ عن كتابِ اللهِ وما أرادَ، وأصحابُه أعلَمُ بذلك منَّا؛ لِمُشَاهَدَتِهم الأمرَ وما أُريدَ بذلك"(1).
ولم يَكُنِ الصحابةُ رضي الله عنهم على مرتَبَةٍ واحدةٍ في العلمِ، كما أنَّهم لَيْسُوا على مرتبةٍ واحدةٍ في الفَضْلِ، والتفاضُلُ بينَهم بالمَنْزِلَةِ والمكانةِ شيءٌ، وتفاضُلُهُم في العِلْمِ شيءٌ آخَرُ، ومنِهم مَن كان تَقَدُّمُه في العِلمِ كتَقَدُّمِه في الفَضْلِ، كالخُلَفَاءِ الراشِدِينَ الأربعةِ؛ فقد جَمَعُوا السَّبْقَيْنِ: سَبْقَ العلمِ، وسَبْقَ الفَضْلِ، ومنهم مَن يتأَخَّرُ على غيرِه بالفضلِ ولكنَّه يسبِقُه بالعلمِ، كابنِ عبَّاسٍ وابنِ مسعودٍ وغيرِهما من الصحابةِ؛ فهُم قد يَفْضُلُونَ بعضَ العَشَرةِ المُبَشَّرِينَ بالجَنَّةِ في العِلم، وذلك فَضْلٌ مِن اللهِ يَقسِمُه بينَ عبادِه، فيُهَيِّئُ لبعضِهم أسبابًا تُقَدِّمُه على غيرِه من وجهٍ ويُقدِّمُ غيرَه عليه مِن وجهٍ، وإذا اختلَفَ الصحابة في حكمٍ مِن أحكامِ القرآنِ، وتساوَوْا منزِلةً بلا مُرَجِّحٍ، فيُقَدَّمُ القولُ الذي ذهَبَ إليه ابنُ عبَّاسٍ؛ لأنَّه مِن أكثَرِ الصحابةِ مشاوَرَةً لهم، ولدعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم له، قال ابنُ عبَّاسٍ:"إنْ كنتُ لَأَسْأَلُ عنِ الأمرِ الواحدِ ثلاثين مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم"(2).
(1)"العدة في أصول الفقه"(2/ 527).
(2)
"الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (2/ 428).