الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223].
نزَلَتْ هذه الآيةُ بيانًا لبطلانِ ما تعتقدُهُ يهودُ مِن ضَرَرِ إتيانِ المرأةِ مِن ورائِها في قُبُلِها، واقتدَى بهم أهلُ المدينةِ مِن الأنصارِ؛ فقد جاء في "الصحيحَيْنِ"، عن جابرٍ رضي الله عنه؛ قال: كانتِ اليهودُ تقولُ: "إذا جامَعَها مِن وَرَائِها، جاءَ الوَلَدُ أحْوَلَ"؛ فنزَلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1).
ما يَحِلُّ للرجلِ من زوجتِهِ:
ثمَّ إنَّ الآيةَ قد دَلَّت على أنَّ الأصلَ في النساءِ الحِلُّ لأزواجِهنَّ، وكنَّى اللهُ عن الجِمَاعِ والوَطْءِ بالحَرْثِ، فشَبَّهَ الزوجةَ بالأرضِ، والوَطْءَ بالحرثِ فيها، والولدَ بالزَّرْعِ، وفي الآيةِ: أنَّ النهيَ عن الوطءِ إنَّما هو استثناءٌ؛ وذلك في أوقاتٍ مخصوصةٍ؛ كالصيامِ، وأحوالِ مخصوصةٍ؛ كالإحرامِ والاعتكافِ، وأماكنَ مخصوصةٍ؛ كالمساجدِ، وفي مواضعَ مخصوصةٍ منها؛ كالدُّبُرِ، ونزولِ الحَيْضِ؛ لاشتراكِهما في عِلَّةِ الأذَى؛ فالقُبُلُ أَذًى عارضٌ، والدُّبُرُ أذًى دائمٌ.
وجاءت هذه الآيةُ لعد تحريمِ الوطءِ زَمَنَ الحيضِ؛ ليبيِّنَ اللهُ مِنَّتَهُ على عبادِهِ أنَّ النهيَ عارِضٌ لا دائِمٌ، فلا يَغِيبُ عن النفوسِ ما أحَلَّهُ اللهُ لهم في أكثرِ الزمانِ؛ فهم يستثقِلُونَ التحريمَ وهو عارضٌ، ويستخِفُّونَ التحليلَ لأنَّه غائبٌ.
وذكَرَ اللهُ النساءَ في قولِه: {نِسَاؤُكُمْ} ، ولم يَخُصَّ الزوجاتِ؛ لِيَعُمَّ ذلك الزوجاتِ والإماءَ، فالحُكْمُ فيهنَّ واحدٌ، وكلُّ ذلك من النساءِ.
(1) أخرجه البخاري (4528)(6/ 29)، ومسلم (1435)(2/ 1058).
وفي الآيةِ: دليلٌ على أنَّ حقَّ الوطءِ للرجلِ على المرأةِ؛ للفِطْرةِ الغالِبةِ في الشهوةِ منه عليها، ولم يتوجَّهِ الخطابُ إليها؛ لِغَلَبةِ حيائِها وإنِ اشترَكَا في الحَقِّ، فيجبُ على الزوجةِ أنْ تمكِّنَ زَوْجَها متى ما رَغِبَها؛ ففي "المسندِ"، والتِّرْمِذيِّ، والنَّسَائيِّ؛ مِن حديثِ طَلْقِ بنِ عليٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال:(إِذَا الرَّجُلُ دَعَا زَوْجَتَهُ لِحَاجَتِهِ، فَلْتَأْتِهِ وَإِنْ كانت عَلَى التَّنُّورِ)(1).
فإنَّ في ذلك أداءً للحقِّ، وقضاءً للوَطَرِ، وتأليفًا للقلبِ، ودَفْعًا للشرِّ؛ فإنَّ الرجلَ أكثَرُ عُرْضةً لفتنِ النساءِ مِن المرأةِ لفتنِ الرجالِ؛ وذلك لأنَّ اللهَ كتَبَ عليه الضَّرْبَ في الأرضِ، فيَغْدُو وَيَرُوحُ، ويبيعُ ويشترِي، ويَعْرِضُ له ما لا يَعْرِضُ للمرأةِ، وفي "صحيحِ مسلمٍ"؛ مِن حديثِ جابرٍ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً، فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ، وَهِيَ تَمْعَسُ مَنيئَةً لَهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ الَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ:(إنَّ المَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا أبْصَرَ أحَدُكُمُ امْرَأةً، فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ؛ فَإِنَّ ذلك يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ)(2).
وفي قولِهِ تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} دليلٌ على الإتيانِ مِن القُبُلِ؛ لأنَّه مَنْبَتُ الوَلَدِ؛ كما رواهُ عِكْرِمةُ، عن ابنِ عباسٍ؛ قال:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} : مَنْبَتَ الولدِ" (3).
فالحَرْثُ: الجِمَاعُ، والأرضُ: الزوجة، والولَدُ: الزَّرْعُ، وكما أنَّه لا يُزرَعُ عقلًا في غيرِ أرضِ الحرثِ، فكذلك لا يُوضَعُ البُضْعُ في غيرِ القُبُلِ، فإذا كان وضعُ الزرعِ على الحَصَى نقصًا في العقلِ، فكذلك وضعُ البُضْعِ في غيرِ القُبُلِ نقصٌ في الدِّينِ.
(1) أخرجه أحمد (16288)(4/ 22)، والترمذي (1160)(3/ 457)، والنسائي في "السنن الكبرى"(8922)(8/ 187).
(2)
أخرجه مسلم (1403)(2/ 1021).
(3)
"تفسير الطبري"(3/ 745).
وقولُهُ تعالى: {أَنَّى شِئْتُمْ} ؛ يعني: على أيِّ صفةٍ تُؤتَى المرأةُ، ما دامَ في الموضعِ الذي أمَرَ اللهُ به؛ روى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ قولَهُ:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، قال:"ائْتِهَا أَنَّى شِئْتَ، مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً، مَا لم تَأْتِهَا فِي الدُّبُرِ وَالمَحِيضِ"(1).
وبنحوِه رواهُ عليٌّ، عن ابنِ عباسٍ.
وبنحوِه قال عِكْرِمةُ ومجاهِدٌ وقتادةُ والسُّدِّيُّ (2).
وقيل: إنَّ معنى قولِهِ: {أَنَّى شِئْتُمْ} : متى شِئْتُمْ؛ قاله الضَّحَّاكُ وغيرُه (3).
وتشبيهُ اللهِ الوطءَ بالحرثِ، والمرأةَ بالأرضِ، والولدَ بالزرعِ: لا يُؤخَذُ منه النهيُ عن مباشرةِ الرجلِ لزوجتِه في فَخِذَيْها وغيرِ ذلك منها ولو أَنْزَلَ؛ لأنَّ الصحابةَ والتابعينَ لم يَرِدْ عنهم خلافٌ في هذا، ولو كان ذلك في غيرِ موضعِ الزَّرْعِ، فكما أنَّه يجوزُ له العَزْلُ وعدَمُ طلبِ الولدِ، فكذلك يجوزُ له الإنزالُ في غيرِ الفَرْجِ مِن غيرِ إيلاجٍ.
وأمَّا المنعُ مِن إتيانِ المرأةِ في دُبُرِها، فلأدلةٍ؛ منها: أنَّه ليس بموضعِ زرعٍ، وليس هذا دليلًا منفردًا في الباب لِيَضْعُفَ مقابِلَهُ القولُ بجوازِ المباشَرةِ والإنزالِ في غيرِ القبُلِ؛ بجامِعِ أنَّ كلَّ واحدٍ منهما غيرُ موضعِ زرعِ؛ لأنَّ المباشَرةَ مع الإنزالِ في غيرِ الفرجِ لا يختلِفونَ فيها، فقد قال لَيْثٌ:"تَذَاكَرْنَا عِنْدَ مُجَاهِدٍ الرَّجُلَ يُلَاعِبُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، قَالَ: اطْعُنْ بِذَكَرِكَ حَيْثُمَا شِئْتَ فِيمَا بَيْنَ الفَخِذَيْنِ وَالأَلْيَتَيْنِ وَالسُّرَّةِ، مَا لم يَكُنْ فِي الدُّبُرِ أَوِ الحَيْضِ"؛ رواهُ ابنُ جريرٍ (4).
(1)"تفسير الطبري"(3/ 746).
(2)
ينظر: "تفسير الطبري"(3/ 746 - 747).
(3)
"تفسير الطبري"(3/ 750).
(4)
"تفسير الطبري"(3/ 728).