الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقولُهُ تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} :
التخالُفُ هو التعاقُبُ على الشيءِ، والخَلْفُ: ما وراءَ الشيءِ؛ قال تعالى: {لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 170]، وقال تعالى:{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142]، وفي الحديثِ في "صحيحِ مسلمٍ"؛ مِن حديثِ ابنِ عمرَ في دعاءِ السَّفَرِ:"أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ"(1)، وقال تعالى:{وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} [الأنعام: 133]، وقال تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]، وقال:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف: 74].
إِذَنْ: فالخليفةُ هو: الذي يأتي بعد غيرِهِ؛ والبَشَرُ يتخالَفُونَ على ما هم فيه مِن سُكْنَى الأرضِ وعِمارتِها، وتدبيرِ الشأنِ العامِّ والخاصِّ، وعلى الأمرِ والحُكْمِ؛ ولذا سُمِّيَ الأميرُ:"خليفةً". وقد كان أبو بكرٍ يسمَّى خليفةَ رسولِ اللهِ، وكذلك عمرُ؛ قال عمرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه:"لو أَطَقْتُ الأذانَ مع الخِلِّيفَى، لأَذَّنْتُ"؛ يعني: الخلافةَ؛ رواهُ عبدُ الرزَّاقِ، وابنُ أبي شَيْبةَ (2). قال ابنُ جريرٍ:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} منِّي يخلُفُني في الحُكْمِ بين خَلْقي (3).
وذلك الخليفةُ هو آدمُ ومَن قامَ مقامَهُ في طاعةِ اللهِ والحُكْمِ بالعَدْلِ بينَ خلْقِهِ وأمَّا الإفسادُ وسفكُ الدماءِ بغيرِ حقِّها، فمِن غيرِ خلفائِه.
الحكمةُ من التأميرِ، وحكمُهُ:
ومِن هذا يُؤخَذُ وجوبُ التأميرِ على الجماعةِ؛ لأنَّ تخالُفَ البشرِ
(1) أخرجه مسلم (1342)(2/ 978).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنَّفه"(1869)(1/ 486)، وابن أبي شيبة في "مصنَّفه"(2334)(1/ 203).
(3)
"تفسير الطبري"(1/ 479، ط. هجر).
مجرَّدًا علامةُ فسادِهم، وهذا ما قصدَتْهُ الملائكةُ في قْولِهم مستفهِمينَ:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} ؟ ! لأنَّ الجِنَّ سبَقُوا البشرَ في الأرضِ، فأفسَدُوا واقتتَلُوا؛ روى ابنُ جريرٍ، وابنُ أبي حاتمٍ، وغيرُهما، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ؛ في قولِهِ:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ، إلى قولِه:{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33]؛ قال: خلَقَ اللهُ الملائكةَ يومَ الأربِعاءِ، وخلَقَ الجِنَّ يومَ الخميسِ، وخلَقَ آدمَ يومَ الجُمُعَةِ؛ فكفَرَ قومٌ مِن الجنِّ، فكانتِ الملائكةُ تَهبِطُ إليهم في الأرضِ فتُقاتِلُهم، فكانتِ الدماءُ بينَهم، وكان الفسادُ في الأرض، فمِن ثَمَّ قالُوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} ؛ كما أفسَدَتِ الجنُّ، {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} ؛ كما سَفَكُوا (1).
ورُوِيَ هذا عن الضَّحَّاكِ عن ابنِ عبَّاسٍ (2).
وإنَّما كان الفسادُ لازمًا عن وجودِ الاستخلافِ؛ لأنَّ البشرَ المستخلَفِينَ يتناسَوْنَ ما يقعُ مِن خطإِ آبائِهم، فيتكرَّرُ فيهم ما سبَقَ في غيرِهم، بخلافِ مَن يعمَّرُ ويخلَّدُ دائمًا بلا استخلافٍ، فإنَّ الخطأَ يقَعُ منه مرةً ولا يتكرَّرُ غالبًا؛ لأنَّه يَذكُرُهُ بنفسِهِ، ويذوقُ ألمَهُ بحواسِّه.
ثمَّ إنَّ مَن يُستخلَفُ يُنازِعُ غيرَهُ على البقاءِ، ويتشبَّثُ بأسبابِه، ويخافُ مِن الموتِ ويترقَّبُهُ، ويهرُبُ من أسبابِه؛ ليدومَ بقاؤُهُ أطولَ؛ لهذا نشَأَ في البشرِ الحسدُ والكذبُ والتدليسُ والسرقةُ والقتلُ منازَعَةً لسلامةِ الحياةِ والبقاءِ فيها.
ولا يستقيمُ حالُ بني آدمَ إلا بخليفةٍ يحكُمُ بالعدلِ؛ ولهذا نجدُ أنَّ كلَّ فسادِ الناسِ يكونُ بخروجِهم عن حُكْمِ اللهِ، وحُكْمُ اللهِ لا بدَّ له مِن قائمٍ به، وهو الخليفةُ؛ فالفسادُ يتحقَّقُ بخروجِ الخليفةِ عن حُكْمِ اللهِ، وبخروجِ المحكومِ عن حكمِ الخليفةِ إذا حكمَ بحكمِ اللهِ وبما لا يُنافِيه.
ومِن الوجوهِ على وجوبِ التأميرِ: أنَّ اللهَ أمَرَ الناسَ بالاجتماعِ،
(1)"تفسير الطبري"(1/ 494)، وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 77).
(2)
"تفسير الطبري"(1/ 478).
ونَهَى عن التفرُّقِ والوَحْدةِ؛ ففي "السننِ"؛ مِن حديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: (يَدُ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَدَّ شَدَّ إِلَى النَّارِ)(1).
وروى أحمدُ، وأبو داودَ، عن أبي الدَّرْدَاءِ؛ قال: قال صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكَ بِالجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ)(2).
والوَحْدة يستقيمُ أمرُ الإنسانِ بها بلا فسادٍ غالبًا؛ لأنَّ الفسادَ يتحقَّقُ باجتماعِهِ مع غيرِهِ، كما يحصُلُ الزِّنى والسرقةُ والقتلُ والغِيبةُ وغيرُ ذلك، ومع هذا فقد أمَرَ اللهُ بالاجتماعِ؛ لأنَّ منافعَ الاجتماعِ أكثرُ من مضارِّهِ، ولا بدَّ لهذه المفاسدِ الناشئةِ عن الاجتماعِ من حُكمٍ يضبِطُ، ونظامٍ يحكُمُ.
ودفعُ الفسادِ لا يكونُ إلا بإمامٍ عَدْلٍ؛ لذا وجَبَ التأميرُ على الناسِ في الحَضَرِ والسَّفَرِ؛ لأنَّ أمرَ الجماعةِ لا يصلُحُ إلا بذلك، وتُدفَعُ له المشاحَّةُ فيما بينَهم؛ وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ.
وتتحقَّقُ الوِلَايةُ من وجهَيْنِ:
أولًا: ثبوتُ النصِّ من الوحيِ بذلك، والنصُّ: إمَّا أنْ يكونَ عامًّا، أو خاصًّا - والخاصُّ رُفِعَ بانقطاعِ الوحيِ -:
أَمَّا النصُّ الخاصُّ: فكثبوتِ خلافةِ أبي بكرٍ؛ فإنَّ خلافتَهُ دلَّ عليها الدليلُ الصحيحُ؛ لأمورٍ ليس هذا مَحَلَّ بسطِها.
وإمامةُ الصلاةِ في الصدرِ الأولِ كانت للإمامِ الأعظمِ، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقدِّمُ أبا بكرٍ فيها، وإذا أرسَلَ سَرِيَّةً، جعَلَ الأميرَ يصلِّي فيهم، وهكذا بنبغي للمسافرِينَ أنْ يصلِّيَ فيهم أميرُهم؛ ففي "المصنَّفِ" لعبدِ الرزَّاقِ، عن مُهاجِرِ بنِ ضَمْرَةَ؛ قال: اجتمَعَ أبو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرحمنِ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، فقال سعيدٌ لأبي سَلَمةَ: حدِّثْ؛ فإنَّا
(1) أخرجه الترمذي (2167)(4/ 466).
(2)
أخرجه أحمد (27514)(6/ 446)، وأبو داود (547)(1/ 150).