الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد ذلك قِتَالَهم؛ لإلحاقِ الضَّعْفِ بهم، وهذا سببٌ للقتالِ أوسعُ مِن الأسبابِ الأُولى.
وقد جعَلَ بعضُ السَّلفِ هذه الآيةَ ناسخةً للآياتِ السابقةِ؛ فقد روى ابنُ جريرٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ؛ قولَهُ:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191]: "كانُوا لا يُقاتِلونَ فيه حتَّى يُبدَؤوا بالقِتالِ، ثمَّ نُسِخَ بعدَ ذلك، فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}؛ حتَّى لا يكونَ شِرْكٌ، {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}؛ أنْ يُقالَ: لا إلَهَ إلَّا اللهُ، عليها قاتَلَ نبيُّ اللهِ، وإليها دَعَا"(1).
فتنةُ الكفرِ أشدُّ من فتنةِ القتلِ:
أمرَ اللهُ بقتالِ المشرِكِينَ حتَّى لا تكونَ فِتْنةٌ، والفِتْنةُ هنا الكفرُ؛ وهذا دليلٌ على أنَّ نَشْرَ أسبابِ الكفرِ من أقوالٍ وكتبٍ، وإذاعتَها، والتهاوُن مع أصحابِها: أعظَمُ مِن انتشارِ أسبابِ القتلِ؛ لأنَّ الكفرَ أكبَرُ مِن القتلِ وأشَدُّ.
وفي الآيةِ: وجوبُ دفعِ أسبابِ فتنةِ الكفرِ عنِ المسلِمِينَ ولو بالقتلِ، وفتنةُ الكُفَّارِ هي كُفْرُهم، فإذا قوِيَتْ شَوْكَتُهم، تَبِعَهمُ المؤمنونَ.
روى ابنُ جريرٍ الطبريُّ؛ مِن حديثِ ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ؛ في قولِ اللهِ:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]؛ قال: "ارتدادُ المؤمنِ إلى الوَثنِ أشدُّ عليهِ مِن القتلِ"(2).
وقد أمرَنَا اللهُ بمقاتَلَتِهم حتَّى تندفِعَ فِتْنَتُهم عنِ المسلِمِينَ، لا أن تندفِعَ فتنتُهم كلُّها عن أَنْفُسِهم؛ لأنَّ هذا محالٌ؛ فالكُفَّارُ باقُونَ إلى قيامِ الساعةِ، وفتنتُهم تُدفَعُ بثلاثةِ أمورٍ:
(1)"تفسير الطبري"(3/ 295 - 296).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 294).
أوَّلًا: أن يدخُلُوا في الإسلامِ، ويَأْمَنوا مِن عقابِ اللهِ، ويأمَنَ المؤمنونَ من كُفْرِهم.
ثانيًا: أن يُقتَلوا ويُكفَى المؤمنونَ شرَّ كُفْرِهم.
ثالثًا: أن يُذَلُّوا بالجِزْيةِ؛ فلا تَكونَ لهم شَوْكةٌ أو قوَّةٌ يتشوَّفُ المؤمِنُ بسببِها إلى الاقتداءِ بهم والتأسِّي بحالِهم؛ فإنَّ الجِزْيةَ فُرِضَتْ صَغارًا لهم، والذليلُ لا يتأثَّرُ الناسُ بقولِه؛ وذلك أنَّ النفوسَ جُبِلَتْ على حُبِّ العظيمِ القويِّ والتأسِّي به؛ فجعَلَ اللهُ الجِزْيةَ صَغَارًا عليهم:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وذلك حتَّى تُحمى بَيْضَةُ المسلِمينَ مِن تسلُّلِ رأيِ الكفرِ وقالَتِهِ واعتقادِهِ إليهم بإذلالِ أصحابِ الكُفْرِ، ويضعُفَ أمرُهُمْ عن التربُّصِ بالمؤمنينَ بمحاوَلَةِ العدوانِ ولو بعدَ حينٍ.
وهذا في أهلِ الكتابِ مِن اليهودِ والنصارى، وأمَّا المشرِكُونَ الوثنيُّون، فلا يُتقبَّلُ منهم إلَّا الإسلامُ أو القَتْلُ؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم:(أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. . .)؛ الحديثَ (1)، وهذا في المشرِكِينَ.
ولِذا لم يأخُذِ النبيُّ مِن مُشرِكٍ جِزْيةً، وإنَّما أخَذَها مِن أهلِ الكتابِ، ويأتي بيانُه بإذنِ اللهِ.
وحمَلَ بعضُ السَّلَفِ كابنِ عُمَرَ الآيةَ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} على خوفِ المؤمنينَ مِن فِتْنةِ الكفَّارِ؛ لِقلَّةِ المؤمِنِينَ وكثرةِ الكفَّارِ، وأنَّ الآيةَ لا تُؤخَذُ على عمومِها وإطلاقِها في كلِّ حالٍ؛ فقد أخرَجَ البخاريُّ، عن نافعٍ؛ قال: "جاءَ رَجُلَانِ إلى ابنِ عُمَرَ أَيَّامَ فِتْنةِ ابنِ الزُّبَيْرِ، فقالا: إنَّ الناسَ صَنَعُوا ما تَرى وأنتَ ابنُ عُمَرَ وصاحبُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فما يمنعُكَ
(1) أخرجه البخاري (25)(1/ 14)، ومسلم (22)(1/ 53)؛ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.