الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحمَلَ بعضُ السَّلَفِ "المَعْدُوداتِ" على صيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، حِينَما كانتْ فرضًا قبلَ صيامِ رمضانَ؛ رواهُ ابنُ جريرٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن عَطَاءٍ (1).
ورواهَ أيضًا عن مَعْمَرٍ عن قَتادةَ (2).
ورُوِيَ بسندٍ فيه ضعفٌ عن ابنِ عبَّاسٍ (3).
والأرجحُ: أنَّ الأيَّامَ المعدوداتِ هي صيامُ رَمَضانَ؛ لظاهرِ السياقِ في الآياتِ، ثمَّ إنَّ شريعةَ الصيامِ قبلَ رمضانَ لا خلافَ أنَّها كانت ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، وصيامَ عاشوراءَ، ولكنَّ كونَ صيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ مكتوبًا على هذه الأُمَّةِ قبلَ رمضانَ: يحتاجُ إلى دليلٍ يُثْبِتُ.
أيْ: مَن كان مِن المكلَّفينَ مِن أهلِ الأعذارِ بسَفَرٍ أو مَرَضٍ، فلا حرَجَ عليه في الفِطْرِ، ويجبُ عليه أنْ يَقضيَ مكانَها أيَّامًا أُخَرَ.
وقولُه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ، المرادُ بالمرَضِ: الذي يَعجِزُ المكلَّفُ معه عن الصيامِ، أو يَقدِرُ ولكنْ بمشقَّةٍ تَضُرُّه ، أو تؤخِّرُ بُرْءَ مَرَضِه.
معنى السفر، وأنَّ الصواب في حدِّه العُرف، والحكمة من ذلك:
والسَّفَرُ: هو ما سُمِّيَ سَفَرًا عُرْفًا، وقد تبايَنَتْ أقوالُ السَّلَفِ في حدِّه؛ لِتبايُنِهم في حدِّ العُرْفِ، وهذا مِن السَّعَةِ والرَّحْمةِ.
وكثيرٌ مِن الفقهاءِ يجعلُ المنقولَ عن السَّلَفِ من الصحابةِ والتابعينَ أقوالًا متضادَّةً، يُبطِلُ أحدُها الآخَرَ، والأظهَرُ: أنَّ مِثْلَ هذا التبايُنِ منهم وهم عرَبٌ يُدرِكُونَ معنى السَّفرِ لو حُدَّ بشيءٍ مِن الوحيِ، لاستقرَّ
(1)"تفسير الطبري"(3/ 157).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 158).
(3)
"تفسير الطبري"(3/ 157).
واستفاضَ، والسَّفرُ ممَّا تَعُمُّ به البلوى لكلِّ أَحَدٍ، وعدمُ تقديرِ ذلك بالنصِّ وحَدِّهِ حدًّا بيِّنًا بالنصِّ المستفيضِ مع الحاجةِ إليه: دليلٌ على أنَّه أُحِيلَ إلى عُرْفِ الناسِ وعادتِهم، وهم يختلِفونَ زمنًا ومَنْزلًا وطبيعةً.
والسَّفَرُ به تسقُطُ أركانٌ للإسلامِ؛ كالصلاةِ والصيامِ؛ فيَذهَبُ شَطْرُ الصلاةِ، ويُجمَعُ وقتُ الثِّنتَيْنِ وقتًا واحدًا، ويُترَكُ صيامُ رمضانَ وهو ركنٌ، ومِثلُ هذا حقُّه بيانُ حدِّه بيانًا يَلِيقُ بمنْزلةِ الأركانِ؛ فكما نزَلَ النصُّ بيِّنًا بحياطتِها والإتيانِ بها، يجبُ أنْ يأتيَ النصُّ برفعِها وتركِها بحدٍّ مشابِهٍ، وهذا مقتضى إحكامِ الشريعةِ.
ومع ذلك: فإنَّ الشريعةَ أرادَتِ الإحالةَ إلى العُرْفِ قصدًا؛ تيسيرًا ورحمةً ورفعًا للحرج.
وكثيرٌ من فقهاءِ السَّلفِ ربَّما أفتَوْا في نازلةٍ أنَّها سفرٌ، ولا يَعني أنَّ ما دُونَها ليس كذلك، فيُنقَلُ قولُ الواحدِ منهم في تلك النازلةِ على أنَّه حَدٌّ ضابِطٌ لأدنى السَّفَرِ، ويُنقَلُ على أنَّه قولٌ يضادُّ غيرَهُ، وربَّما أَفْتَى الواحدُ منهم بما يوافِقُ عُرْفَهُ وعُرْفَ أهلِ بلدِه؛ حيثُ أُحِيلَ الأمرُ إليه، فيُجعَلُ قولًا وحدًّا يُضادُّ غيرَهُ.
ولهذا تجدُ مِن فقهاءِ السَّلَفِ مَن يختلِفُ قولُهُ في حدِّ ما يُوصفُ به السَّفَرُ، فيُروى عه في ذلك قولانِ وثلاثةٌ، وتُنقَلُ على أنَّها أقوالٌ مختلِفةٌ، وما هي إلَّا قولٌ واحدٌ؛ إمَّا في نوازلَ مختلفةٍ لا تَعني أدنى مسافةِ السَّفَرِ، فحُمِلَتْ على أنَّها أقوالٌ متعدِّدةٌ، وإمَّا أنَّ العرفَ تبايَنَ؛ لاختلافِ الجهةِ المقصودةِ في السَّفَرِ، فبعضُ السَّلَفِ يفرِّقُ بين ما يسافِرُ إليه الناسُ ويَرجِعونَ مِن يومِهم، وبين ما يسافِرُونَ إليه ويمكُثُونَ فيه أيَّامًا، ولو كان الأخيرُ أقلَّ مسافةً، والأوَّلُ أطوَلَ، فيَجعلونَ الأوَّلَ ليس بسفرٍ، والثاني يجعلونَهُ سفرًا وإنْ كان أقصَرَ مسافةً، وكلُّها تَرجِعُ إلى العُرْفِ.