الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124].
الحكمةُ مِن ابتلاءِ الأنبياءِ:
يبتلِي اللهُ مَن يشاءُ مِن عبادِه، ومنهم الأنبياءُ، وهم أَشَدُّ الناسِ بلاءً واختبارًا؛ تثبيتًا لهم، وشدًّا مِن عَزمِهم؛ فإنَّ النفوسَ لا تثبُتُ وتَقْوَى وتَصبِرُ إلا بعدَ شدةٍ وابتلاءٍ واختبارٍ ومِحَنٍ تَمُرُّ بها؛ وهذا ما أجراهُ على أنبيائِهِ حتى قَبْلَ بَعْثَتِهم؛ لأنَّهم يسْتقبِلونَ حِمْلًا شديدًا، وعِبْئًا ثقيلًا.
وبعدَ ابتلاءِ اللهِ لأنبيائِهِ يأتي أمرُ التوسُّعِ بالتشريعِ والدعوةِ ومواجهةِ الخصومِ، وأعظَمُ بلاءِ الأنبياءِ وورثتِهم عليهم هو في البداياتِ، فيصبرِونَ ويَقْوَوْنَ، ثم يَمُرُّ عليهم البلاءُ، فلا يؤثِّرُ فيهم تأثيرَهُ الأولَ.
ابتلاءُ أصحابِ الولاياتِ:
وفي الآيةِ: دليلٌ على تقديرِ الابتلاءِ والامتحانِ لِمَنْ يحمِلُ شيئًا مِن أمرِ الأمَّةِ؛ لمعرفةِ حالِهِ ومدى صبرِهِ وثباتِه؛ فالاختبارُ يكونُ قبلَ تحمُّلِ الأمانةِ ولو قَلَّتْ؛ قال اللهُ عن اليتامَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6]؛ يعني: اختبِروهم وامتحِنوهم قبلَ تحميلِهم أمرَ المالِ.
وقد ثبَّتَ اللهُ الأنبياءَ عندَ بلائِهم وأعانَهم، ولمَّا ثبَتُوا وصبَرُوا، وَفَى لهم ما أرادهُ لهم مِن تمامِ الاصطفاءِ؛ روى ابنُ جريرٍ؛ مِن حديثِ داودَ، عن عِكْرِمةَ، عن ابنِ عباسٍ؛ في قولِهِ:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} ؛ قال: قال ابنُ عباسٍ: لم يُبْتَلَ أحدٌ بهذا الدِّينِ فأقامَه إلا إبراهيمُ، ابتلاهُ اللهُ بكلماتٍ، فأتَمَّهُنَّ؛ قال: فكتَبَ اللهُ له البراءةَ، فقال:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]؛ قال: عَشْرٌ منها في "الأحزابِ"،
وعَشْرٌ منها في "براءةَ"، وعشرٌ منها في "المؤمنون"، و"سأَلَ سائلٌ"، وقال: إنَّ هذا الإسلامَ ثلاثونَ سهمًا (1).
وفي روايةٍ مِن هذا الطريقِ له؛ قال عن هذه العَشْرِ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} ، إلى آخِرِ الآيةِ [التوبة: 112]، وعَشْرٌ في "الأحزابِ":{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35]، وعَشْرٌ مِن أولِ سورةِ "المؤمنونَ"، إلى قولِه:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9]، وعَشْرٌ في "سأَلَ سائلٌ":{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34](2).
ورُوِيَ في معنى هذا الابتلاءِ عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ قولٌ آخَرُ؛ فروى عبدُ الرزَّاقِ - وعنه ابنُ جريرٍ - مِن حديثِ مَعْمَرٍ، عن ابنِ طاوُسٍ، عن أبيهِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} ؛ قال: ابتلاهُ اللهُ بالطهارةِ: خمسٌ في الرأسِ، وخمسٌ في الجَسَدِ؛ في الرأسِ: قصُّ الشاربِ، والمضمضةُ، والاستنشاقُ، والسِّوَاكُ، وفَرْقُ الرأسِ، وفي الجسدِ: تقليمُ الأظفارِ، وحَلْقُ العانةِ، والخِتَانُ، ونَتْفُ الإِبْطِ، وغسلُ أثرِ الغائطِ والبولِ بالماءِ (3).
وروى عبد الرزَّاقِ - وعنه ابنُ جريرٍ - عن مَعْمَرٍ، عن الحَكَمِ بنِ أبانَ، عن القاسمِ بنِ أبي بَزَّةَ؛ عن ابنِ عباسٍ، بمِثْلِه؛ ولم يذكُرْ أثرَ البولِ (4).
ورُوِيَ عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ؛ قال: ستةٌ في الإنسانِ، وأربعةٌ في المَشَاعرِ؛ فالتي في الإنسانِ: حَلْقُ العانةِ، والخِتَانُ، ونَتْفُ الإِبْطِ، وتقليمُ الأظفارِ، وقصُّ الشاربِ، والغُسْلُ يومَ الجمعةِ، وأربعةٌ في
(1)"تفسير الطبري"(2/ 498).
(2)
"تفسير الطبري"(2/ 498).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره"(116)(1/ 389)، وابن جرير في "تفسيره"(2/ 499).
(4)
"تفسير الطبري"(2/ 500).
المشاعرِ: الطوافُ، والسعيُ بينَ الصَّفَا والمَرْوةِ، ورميُ الجمارِ، والإفاضةُ (1)؛ رواهُ ابنُ جريرٍ، وسندُه ضعيفٌ؛ فيه ابنُ لَهِيعَةَ.
وروى ابنُ جريرٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ؛ قال: كان ابنُ عباسٍ يقولُ في قولِه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} ؛ قال: المناسكُ (2)؛ وهو صحيحٌ.
وروى ابنُ جريرٍ؛ مِن حديثِ ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ؛ في قولِه:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال اللهُ لإبراهيمَ: إنِّي مُبتلِيكَ بأمرٍ فما هو؟ قال: تجعلُني للناسِ إمامًا! قال: نَعَمْ، قال: ومِن ذُرِّيَّتي، قال:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ؛ قال: تجعلُ البيتَ مَثَابةً للناسِ، قال: نعم، قال: وأَمْنًا، قال: نعم، قال:{وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]، قال: نعم، قال: وتُرِينا مناسِكَنا وتتوبُ علينا، قال: نعم، قال: وتجعلُ هذا البلدَ آمِنًا، قال: نعم، قال: وترزُقُ أهلَهُ مِن الثمراتِ مَنْ آمَنَ منهم، قال: نَعَمْ (3).
وثبَتَ عن عِكْرِمةَ هذا القولُ أيضًا؛ رواهُ ابنُ جريرٍ (4).
وأخرَجَهُ الطبريُّ؛ مِن حديثِ إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ؛ في قولِه:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} فمنهنَّ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، وآياتُ النُّسُكِ (5).
وهذا مِن اختلافِ التنوُّعِ، والمرادُ هو: ما ابتَلَى اللهُ به إبراهيمَ مِن أوامرَ وأحكامٍ شرعيَّةٍ ونوازلَ قَدَريَّةٍ، قدَّرَها اللهُ بكلماتِهِ وقضائِهِ عليه، فأتَمَّها ووفَّى بها؛ أيْ: ثبَتَ على ابتلاءِ الأقدارِ، وأدَّى ما أُمِرَ به مِن التشريع.
(1)"تفسير الطبري"(2/ 501).
(2)
"تفسير الطبري"(2/ 503).
(3)
"تفسير الطبري"(2/ 502).
(4)
"تفسير الطبري"(2/ 502).
(5)
"تفسير الطبري"(2/ 501).
وفي هذه الآياتِ: دليلٌ على أنَّ الثباتَ على الابتلاءِ مِن اللهِ بنوعَيْهِ الشرعيِّ والكونيِّ: مِن أعظمِ مَنَاقِبِ الأنبياءِ وخِصَالِهم، وأنَّ الرأسَ في الحقِّ لا بدَّ أن يُبتلَى أكثَرَ مِن غيرِه؛ كالرأسِ مِن الجسدِ هو أكثرُ الجسدِ بلاءً وفتنةً وإصابةً، وإذا ثبَتَ الرأسُ، ثَبَتَ الجسدُ، وإذا تهاوَى وانتكَسَ، انتكَسَ معه الجسدُ؛ فلا ينتكسُ جسدٌ إلا والرأسُ يَسْبِقُهُ.
وفي سؤالِ إبراهيمَ لربِّه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} : دليلٌ على عدمِ جوازِ طاعةِ الظالمِ، وعلى عدمِ جوازِ تَوْلِيَتِه بالاختيارِ؛ فعندَ ابنِ جريرٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ:{قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ؛ قال: "لا يكونُ إمامًا ظالمًا"(1).
ورواهُ عن ابنِ أبي نَجيحٍ عن عِكْرِمةَ مِثلَهُ (2).
ولمَّا كانتْ ذريةُ إبراهيمَ فيها الظالمُ، وامتنَعَ اللهُ عن جعلِ ذريةِ إبراهيمَ جميعهم أئمةً كإبراهيمَ، دلَّ على أنَّ الفضلَ لا يُورَثُ، فأعظَمُ فضلٍ مقامُ النبوَّةِ، فلا يَرِثُهُ وارثٌ، والصلاحُ لا يُورَثُ، وكذلك العِلْمُ، وإذا كان هذا في إبراهيمَ، فكيف بذريَّةِ غيرِه؟ !
ويخرُجُ مِن هذا مَن يولَّى مِن الظَّلَمةِ؛ لدفعِ ظلمٍ أشَدَّ منه، فهذا دفعٌ لمفسدةٍ بما هو دونَها، وكدلك الظالمُ المستبِدُّ الذي يتولَّى قهرًا يُطاعُ بالمعروفِ ما دامَ يُقيمُ الصلاةَ ويُظهِرُ الإسلامَ ويشرِّعُهُ، ولا يُطاعُ في المعصيةِ.
وفي الآيةِ: دليلٌ على أنَّ إمامةَ الناسِ وقيادتَهم لا تكونُ توريثًا، وقد سألَها إبراهيمُ ربَّه، فلم يُعْطَهَا:{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
(1)"تفسير الطبري"(2/ 512).
(2)
"تفسير الطبري"(2/ 512).
واللهُ منَعَ إمامةَ الظالمِ؛ لوجودِهِ فيهم، وأنَّ القولَ بتوريثِ الإمامةِ والقيادةِ يلزَمُ منه عدمُ خروجِ الأمرِ منهم؛ وهذا لا يُعرَفُ في دينِ الإسلامِ، وكان مِن قبلُ سُنَّةَ فارسٍ والرومِ.
وروى أبو يَعْلَى وابنُ أبي حاتمٍ؛ من طريقِ إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ؛ أخبَرَني عبدُ اللهِ؛ قال: إنِّي لفي المسجِدِ حينَ خطَبَ مَرْوانُ، فقال: إنَّ اللهَ أرَى أميرَ المؤمنينَ في يَزِيدَ رأيًا حسنًا، وإنْ يَستخلِفْهُ فقد استخلَفَ أبو بكرٍ وعمرُ، فقال عبدُ الرحمنِ بنُ أبي بكرٍ: أهِرَقْلِيَّةٌ؟ ! إنَّ أبا بكرٍ واللهِ ما جعَلَها في أحدٍ مِن وَلَدِه، ولا أحدٍ مِن أهلِ بيتِه، ولا جعَلَها معاويةُ في ولدِهِ إلا رحمةً وكرامةً لولدِه (1).
والتزامُ توريثِ الوِلَاياتِ مِن أظهرِ أسباب وجودِ الظَّلَمةِ والمستَبِدِّينَ والجَهَلةِ؛ لأنَّهم يعلَمون أنَّ الأمرَ فيهم، وأنَّ ظهورَهم لا يلزَمُ منه العِلْمُ والصلاحُ والتَّقْوى والسياسةُ والأمانةُ، فتَعَطَّلَتْ أسبابُ تحصيلِ الوِلَايةِ؛ لأنَّهم يَرَوْنَ أنفسَهم يَصِلُونَ إليها بالنَّسَبِ فقطْ، والنسبُ ثابتٌ لا يُنزَعُ.
ومِن السَّلَفِ: مَن حمَلَ المعنى على أمرِ الآخِرةِ؛ فقد روى ابنُ جريرٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ:{قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} : ذلكم عندَ اللهِ يومَ القيامةِ، لا ينالُ عهدَه ظالمٌ، فأمَّا في الدُّنيا، فقد نالوا عهدَ اللهِ، فتوارَثُوا به المسلمينَ وغازَوْهم وناكَحُوهم به، فلمَّا كان يومُ القيامةِ، قَصَرَ اللهُ عهدَهُ وكرامتَهُ على أوليائِه (2).
* * *
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3295).
(2)
"تفسير الطبري"(2/ 514).