الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا لا يحدُثُ مصادَفةً، والفعلُ المتكرِّرُ أقوى من الحثِّ بالقولِ بلا فعلٍ، والفعلُ مع القولِ أقوى من أَحَدِهما بدونِ الآخَرِ.
وكانَ السلفُ يَعتمِرُونَ في أشهُرِ الحَجِّ أكثَرَ مِن غيرِها.
والباءُ في قولِ اللهِ تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} للتعويضِ؛ كقولِهم: صاعًا بصاعٍ؛ أيْ: إنَّ الحُكْمَ واحدٌ للطَّرَفَيْنِ يَتَقابَلانِ بِه؛ روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن أَيُّوبَ، عن عِكْرِمةَ؛ قال: قال ابنُ عَبَّاسٍ: "رَضِيَ اللهُ بالقِصَاصِ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَأْخُذُ مِنْكُمُ العُدْوانَ؛ قَالَ اللهُ: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، فحَجَّةٌ بحَجَّةٍ، وعُمْرَةٌ بِعُمْرَةٍ"(1).
ولذا قال تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} ؛ أيْ: مماثلةٌ ومقابَلةٌ في المجازاةِ والانتِصافِ، وكما تكونُ المحرَّماتُ على أحدٍ، فيَنتهِكُها، فيسقُطُ التحريمُ عمَّن يُقابِلُه، فله أنْ يجازيَهُ بمِثْلِ عُدْوانِهِ عليهِ؛ كالسِّنِّ، بالسِّنِّ، والعَيْنِ بالعَيْنِ، والأُذُنِ بالأُذُنِ، فأصلُ العدوانِ حرامٌ، لكنْ لو وقَعَ للمعتدَى عليه، أخَذَ القِصَاصَ، وكذلك فيمَنِ اختَرَقَ حُكْمَ الأشهُرِ الحُرُم بالقتالِ، فله مقابَلَتُهُ بالمِثْلِ، وهذا شبيهٌ بما سبَقَ في قولِهِ تعالى:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191].
حرمةُ النفسِ أعظم من حرمة المكانِ والزمان:
وفي الآياتِ: دليلٌ على أنَّ حُرْمةَ النفسِ أعظَمُ من حُرْمةِ الأزمنةِ والأمكنةِ، فأَبَاحَ اللهُ في الحَرَمِ وفي الشَّهْرِ الحرامِ القتالَ لِصَدِّ العُدْوانِ على النفسِ؛ لأنَّ الأَزْمِنةَ لا تعظَّمُ إلَّا بأفعالٍ، والأفعالُ لا تقومُ إلَّا بفاعِلِينَ؛ فصيانةُ الفاعِلِينَ - وهم النفوسُ المعصومةُ - أَوْلى.
وقالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ؛ أيْ: بالمماثَلةِ كما فعَلُوا في شهرٍ حرامٍ، فقابِلُوهُ بمقاتَلَتِهِ في شهرٍ حرامٍ.
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 329).
وقد ذكَرَ اللهُ سبحانَهُ حُكْمَ القتالِ والحاجةَ إليه، وبيَّن حُكْمَ القتالِ في حَرَمِ اللهِ، وهو المكانُ الذي كان يقصدُهُ المسلمونَ للعُمْرةِ، فخَشُوا مِن تربُّصِ المشرِكِينَ وخيانتِهم لهم، فأنزَلَ اللهُ ما سبَقَ مِن حُكْمِ القتالِ في البلدِ الحرامِ، ولمَّا كان ذَهَابُ المؤمِنِينَ إلى مَكَّةَ في الأشهُرِ الحُرُمِ، ناسَبَ ذلك بيانَ اللهِ حُكْمَ ما يجدونَهُ مِن حَرَجٍ في القتالِ في هذه الأشهُرِ.
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أهمِّيَّةِ العِلْمِ والفَهْمِ قبلَ العمَلِ؛ حتَّى يجتمِعَ الناسُ على حَقٍّ مستقرٍّ سابقٍ؛ فإنَّ مسائلَ الخلافِ في الأحوالِ الحَرِجةِ يَنقسِمُ فيها الناسُ، وربَّما يتَقاتَلُونَ عليها لتأزُّمِ النفوسِ، فكان استقرارُ العلمِ والاجتماعُ عليه - خاصَّةً في المهمَّاتِ كالقِتالِ -: مِن الواجباتِ؛ لهذا جاءَ الحُكْمُ الإلهيُّ ببيانِ القتالِ وحدودِهِ مكانًا وزمانًا.
روى ابنُ جريرٍ، عن أيُّوبَ، عن عِكْرِمةَ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ؛ في هذه الآيةِ:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} ؛ قال: "أمرَكُمُ اللهُ بالقِصَاصِ، ويأخُدُ منكمُ العُدْوانَ"(1).
وروى عن معاويةَ بنِ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ؛ قولَهُ:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} : "فهذا ونحوُهُ نزَلَ بمَكَّةَ والمسلِمونَ يومئذٍ قليلٌ، وليس لهم سُلْطانٌ يَقْهَرُ المشرِكِينَ، وكان المشرِكُونَ يَتَعاطَوْنَهُمْ بالشَّتْمِ والأذى؛ فأمَرَ اللهُ المسلِمِينَ، مَن يُجازِى منهم أن يُجازِيَ بمثلِ ما أُتِيَ إليه، أو يصبِرَ أو يعفُوَ؛ فهو أمثلُ، فلمَّا هاجَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، وأعَزَّ اللهُ سلطانَهُ، أمَرَ المسلِمِينَ أن ينتَهُوا في مظالمِهم إلى سُلْطانِهم، وألَّا يَعْدُوَ بعضُهم على بعضٍ كأهلِ الجاهليَّةِ"(2).
(1)"تفسير الطبري"(3/ 308).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 310)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 329).