الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتضمَّنُ حُكْمًا يتوجَّهُ إلى المؤمنينَ خاصَّةً؛ وذلك أنَّ الكفَّارَ لا يُخاطَبونَ بفروعِ الشريعةِ للعملِ بها في الدُّنيا؛ وإنَّما يُخاطَبونَ بفروعِ الشريعةِ للعقابِ عليها في الآخِرةِ.
وقولُه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} أصلُ الكَتْبِ: الجَمْعُ، والمرادُ به هنا: توثيقُ الشيءِ بجمعِهِ وشَدِّهِ وعَقْدِ أمرِه.
والصِّيامُ في اللغةِ: الإمساكُ، والصَّائِمُ: القائِمُ الساكتُ، والمُمسِكُ الذي لا يَطْعَمُ شيئًا.
يقالُ: صام الفرسُ على آرِيِّهِ: إذا لم يَعتلِفْ.
وصيامُ الرِّيحِ: رُكُودُها.
قال أبو عُبَيْدةَ: كلُّ مُمسِكٍ عن طعامٍ أو كلامٍ أو سَيْرٍ، فهو صائمٌ.
قال تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]؛ أيْ: إمساكًا عن الكلامِ.
وصومُ النَّهارِ: وقوفُ الشمسِ في الظَّهِيرةِ.
قال امرُؤُ القَيْسِ:
فَدَعْهَا وَسَلِّ الهَمَّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ
…
ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا
وصومُ الخيلِ: إمساكُها عن الصَّهِيلِ.
وممَّا يُنسَبُ للنابغةِ الذُّبْيانيِّ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ
…
تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
وأمَّا في اصطلاحِ الشارعِ، فالمرادُ بالصِّيامِ:"إِمساكٌ مخصوصٌ، في زمنٍ مخصوصٍ، مِن شخصٍ مخصوصٍ، بنيَّةٍ مخصوصةٍ".
الصيامُ في الأممِ السابقةِ:
وذكَرَ اللهُ أنَّ الصِّيامَ قد شُرِعَ على مَنْ سبَقَنا؛ لأمورٍ، منها:
أوَّلًا: التَّعْزِيَةُ بأنَّ هذا التكليفَ فُرِضَ على غيرِكم وقامُوا به؛
فالإنسانُ الذي يكلَّفُ بما يكلَّفُ به غيرُهُ يتسلَّى ويتعزَّى، بخلافِ ما لو أُمِرَ بتكليفٍ وحدَهُ مِن دونِ الناسِ.
ثانيًا: فيه حَثٌّ وحَضٌّ على العملِ؛ فأُمَّةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خيرُ الأُمَمِ؛ قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وفي الحديثِ:(إِنَّكُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ عز وجل)؛ أخرَجَهُ أحمدُ؛ مِن حديثِ بَهْزِ بن حَكِيمٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه (1).
فإذا فعَلَ مَنْ دُونَهم ما أُمِرُوا به وهم خيرُ الأممِ، فهم مِن بابِ أَولى أنْ يقوموا بأمرِ اللهِ.
ثالثًا: لبيانِ مَنْزِلةِ شريعةِ الصيامِ؛ فالأمرُ الذي يُحكِمُهُ اللهُ في كلِّ شريعةٍ دليلٌ على فضلِهِ على غيرِهِ مِن الأعمالِ، وأنَّ صلاحَ دِينِ الأممِ جميعًا لا يستقيمُ إلَّا به، وإنِ اختلَفُوا في غيرِه، والعبادةُ التي تُفرَضُ في كلِّ شريعةٍ أَشَدُّ تمكُّنًا في فِطْرةِ الإنسانِ مِن غيرِها، وإنْ كانتْ جميعُ العباداتِ على فِطْرةِ الإنسانِ التي طُبعَ عليها، لكنَّها تَختلِفُ تمكُّنًا منها.
واللهُ لطيفٌ بعبادِهِ رحيمٌ بهم، وهو بأُمَّةِ محمَّدٍ أرحمُ، وإذا جَعَلَ العبادةَ التي رَحِمَ بها الأممَ سببًا لرحمةِ أمَّةِ محمَّدٍ، فهذا دليلٌ على أنَّ اللهَ اختار مِن شرائعِ الأممِ أَشَدَّ أعمالِها رَحْمةً ويُسْرًا.
رابعًا: لبيانِ خطورةِ مخالَفةِ أمرِ اللهِ في الصِّيَامِ؛ فبيانُ اللهِ أنَّ فريضةَ الصيامِ فريضةٌ للأممِ السابقةِ ولهذه الأمَّةِ: إشارةٌ إلى أنَّ تَرْكَ الإنسانِ الفاضِلِ للعملِ أعظَمُ عندَهُ مِن تَرْكِ الإنسانِ المفضولِ، فالفاضلُ أَولى بالعملِ؛ لقُرْبِه.
ثمَّ إنَّ الشريعةَ المفروضةَ على الأممِ السابقةِ أظهَرُ في الإحكامِ مِن غيرِها، فلا تُنكِرُها النفوسُ؛ لكونِها حادثةً عليها، بل تتلقَّاها النفوسُ
(1) أخرجه أحمد (20029)(5/ 3).
وتَقْبَلُها؛ لهذا كلَّما كان الأمرُ أظهَرَ إحكامًا وأصرَحَ بيانًا، كانتِ المخالفةُ له أعظَمَ.
وقد اختُلِفَ في الصيامِ المفروضِ على الأممِ السابقةِ عدَدًا وزمنًا، والمقطوعُ به: أنَّه إمساكٌ عن الطعامِ والشرابِ؛ لأنَّ الأكلَ والشربَ أصلٌ في تحقُّقِ اسمِ الصيامِ، وأمَّا ما عدَاهُ - كالجِمَاعِ وغيرِه - فيحتاجُ ذلك إلى دليلٍ يبيِّنُ؛ وقد روى أَسْبَاطٌ، عن السُّدِّيِّ:"أَنَّ الجِماعَ محرَّمٌ عليهم، وهكذا كان النَّصارى يصُومُونَ في المدينةِ؛ يدَعُونَ الطعامَ والشرابَ والجِمَاعَ"(1).
وحمَلَ بعضُهمُ التشبيهَ في قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} على التشبيهِ بالوقتِ؛ فوقتُهم كوقتِنا، ومنهم مَن حمَلَ التشبيهَ على جميعِ الوجوهِ.
ورُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ وابنِ مسعودٍ، وعطاءٍ وقتادةَ: أنَّ اللهَ فرَضَ على الأممِ السابقةِ صيامَ ثلاثةِ أيامٍ (2).
والأممُ السابقةُ التي فرَضَ اللهُ عليها الصيامَ لم يبيَّنْ أوَّلُها، ولعلَّ الصيامَ كان في كلِّ شريعةٍ؛ لظاهرِ إطلاقِ الآيةِ، وقد دلَّ الدليلُ مِن القرآنِ: أنَّه في شريعةِ بني إسرائيلَ، وقد روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن عبَّادِ بنِ منصورٍ، عن الحسَنِ:"كتَبَهُ اللهُ على كلِّ أُمَّةٍ قبلَنا كما كتَبَهُ علينا"(3).
وروى ابنُ أبي حاتمٍ، عن نَصْرِ بنِ مُشَارِسٍ، عن الضحَّاكِ:"أنَّ أوَّلَ مَن صامَ نوحٌ"(4).
وروى ابنُ أبي حاتمٍ، عن أبي الربيعِ، عن رجلٍ مِن المدينةِ، عن
(1)"تفسير الطبري"(3/ 154).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 157 - 158)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 304).
(3)
"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 305).
(4)
"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 304).