الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قطعٌ للتوهُّمِ بأنَّ الأَكْلَ في الليلِ إنَّما هو عِندَ الغروبِ إلى العشاءِ للفِطْرِ، وقبلَ الفَجْرِ للسُّحورِ، وما بينَهُما يحرُمُ؛ وذلك لأنَّه مِن عادَتِهم أنَّهم كانُوا ينامُونَ بعدَ صلاةِ العشاءِ وقيامِها، فَإذا صَلَّوْا، لم يَأْكُلوا إلا أُكْلةَ السحورِ، فبيَّن اللهُ أنَّ وقتَ الإفطارِ هو ما بَينَ المَغرِبِ إلى الفجرِ.
وقتُ فطرِ الصائمِ:
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أنَّ المعتبَرَ في الفِطرِ: تحقُّقُ الغروبِ وثبوتُهُ، وأنَّ مَن ثبَتَ عندَهُ ذلك، تأكَّدَ في حقِّهِ التعجيلُ ولو لم يَسمَعِ الأذانَ؛ لأنَّ الأذانَ علامةٌ على ثبوتِ الغروبِ، فالمؤذِّنُ والصائِمُ كلٌّ منهما مرتبِطٌ بِالأذانِ على السَّواءِ، ولا يُشرَعُ لمن ثبَتَ عِندَهُ الغروبُ تأخيرُ الفِطْرِ حتَّى يَسمَعَ الأذانَ.
وإنَّما أمَرَ بِالأكلِ والشربِ بعدَ بيانِ حكمِ الجِمَاعِ، مع أنَّ الأكلَ والشربَ أَظْهَرُ في إفسادِ الصيامِ؛ وذلكَ لأنَّ أمرَ الجِمَاعِ أشدُّ إشكالًا في نفوسِهم، فأزالَهُ أوَّلًا قبلَ الأكلِ والشربِ.
وقولُه: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} ؛ لأنَّ الأصلَ بقاءُ الليلِ، فلا ينتقِلُ منه إلا ببيَّنةٍ، فيُمسِكُ بِعلْمٍ كما بَقِيَ على عِلْمٍ، وهذا في التبيُّنِ في حالِ البقاءِ على الليلِ؛ فإنَّ التبيُّنَ في البقاءِ على الإمساكِ أَوْلَى، فلا يُفطِرُ حتَّى يتبيَّنَ الغروبَ، ومَن أفطَرَ بالظنِّ، أعادَ، ومَن أفْطَرَ باليقينِ فبَانَ أنَّه في نهارٍ، صَحَّ صِيَامُهُ؛ ولذا قالَ:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ؛ أيْ: على ذلك التحرِّي والتبيُّنِ يجبُ أن يكونَ الإتْمامُ.
النية في الصومِ:
و"ثُمَّ" في عَطْفِ الجُمَلِ للتراخي في الترتيبِ، وَقد تكلَّفَ بعضُ الفقهاءِ مِن الحنفِيَّةِ كأبِي جعفرٍ الخَبَّازِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، فاستدَلَّ بهذه الآيةِ
على صِحَّةِ تأخِيرِ النِّيَّةِ عنِ الفَجرِ إلى الضُّحَا؛ تدلِيلًا على صِحَّةِ مذهبِ الحنفيَّةِ، وليس هذا مِن معاني "ثُمَّ" في التراخِي في عطفِ الجُمَلِ.
والخيطُ الأبيضُ والأسوَدُ المرادُ بهِ سَوَادُ الليلِ وبياضُ النهارِ، وقد ظنَّه عَدِيٌّ أنَّه الحبْلُ من الصُّوفِ ونحوِه، وهو تفسيرٌ صحيحٌ في اللغةِ، ولكنَّه ليس بصحيحٍ في اصطلاحِ الشارعِ والشرعِ؛ صحيحٌ لغةً؛ لأنَّه نزَلَ بلُغَةِ العربِ، ولكنَّ اللُّغةَ عامَّةٌ فينزلُ القرآنُ كثيرًا على بعضِ أفرادِها، ويُعرَفُ باصطلاحِ الشارعِ المعاني الخارجةُ في اللغةِ منه.
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى النِّيَّةِ، فتقسيمُ الحُكْمِ والزمَنِ وتفصيلُهما لا يتحقَّقُ إدراكُهُ في الإنسانِ إلَّا بحضورِ قلبٍ؛ فقد ذكَرَ محرَّماتٍ يتخلَّلُها مباحاتٌ، فالأصلُ الصيامُ، ثمَّ يتخلَّلُهُ ليلٌ يُفطِرُ فيه، وفي الليلِ يُؤكَلُ ويُشرَبُ ويُرفثُ، وينتهي ذلك إلى الفجرِ؛ لأنَّه قال:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} .
ووضوحُ الخيطَيْنِ إنما يكونُ في لَحْظةٍ يسيرةٍ لدقائِقَ معدودةٍ لا يميِّزُها إلا متحَرٍّ وراصدٌ مستحضِرٌ، وهذا معنى النيةِ المقصودُ في الآيةِ، فكما أنَّه يجبُ استحضارُ النيةِ للإمساكِ إلى الليلِ، فيجبُ استحضارُ النيةِ بالفطرِ إلى الصبحِ.
وروى أهلُ السُّنَنِ، عنِ ابنِ عمرَ، عن حَفْصةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال:(مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ)(1).
وقد رُوِيَ عن نافعٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ؛ قولَهُ موقوفًا؛ وهو أصحُّ.
صوَّبَ الوقفَ البخاريُّ والترمذيُّ (2) وأبو حاتمٍ والنَّسَائيُّ وغيرُهم.
(1) أخرجه أبو داود (2454)(2/ 329)، والترمذي (730)(3/ 99)، والنسائي (2331)(4/ 196).
(2)
"سنن الترمذي"(3/ 99).
ويكفي في إيجابِ النِّيَّةِ في الأعمالِ قولُهُ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)(1)؛ أيْ: إنَّما قَبُولُ الأعمالِ أو رَدُّها يكونُ بالنِّيَّةِ.
وقد اختَلَفُوا في صومِ النافلةِ، والصوابُ: جوازُ نيتِهِ مِن النهارِ؛ لحديثِ عائشةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصبِحُ مُمْسِكًا فإنْ لم يَجِدْ طعامًا، أَتَمَّ (2).
واختَلَفُوا في النيةِ؛ هل هي واجبةٌ لكلِّ ليلةٍ من رمضانَ، أم تكفي نيةٌ واحدةٌ له كلِّه؛ وهما روايتانِ في مذهبِ أحمدَ:
أُولاهما: يُجزِئُ لصيامِ رمضانَ نيةٌ واحدةٌ؛ وهذا هو المشهورُ عندَ المالكيَّةِ، وعليه جماعةٌ من السَّلفِ.
ثانيتُهما: وجوبُ النيةِ لكلِّ ليلةٍ.
ويكفي المسلِمَ أن يَعْلَمَ أنَّ غدًا رمضانُ، ويريدَ صومَهُ، والأصلُ صيامُهُ له؛ فبعلمِهِ وإرادتِهِ يكونُ قد نَوَى.
ذكَرَ الاعتكافَ بعدَ حُكْمِ الصيامِ؛ لأنَّ غالِبَ الاعتكافِ يكونُ في رمضانَ، في عَشْرِهِ أو عِشْرينِهِ الأخيرةِ؛ حتَّى لا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ إطلاقَ حِلِّ إتيانِ النساءِ في ليلِ الصيامِ يدخُلُ فيه المعتكِفُ، فالمعتكِفُ يحرُمُ عليه مباشَرَة المرأةِ ما دام معتكِفًا، ولو كان في غيرِ رمضانَ أو كانَ غيرَ صائِمٍ؛ لأنَّ العِلَّةَ في ذلك الاعتكافُ؛ ولذا قال:{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} ؛ يعني: حالَ اعتكافِكم.
روى ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن
(1) أخرجه البخاري (1)(1/ 6)، ومسلم (1907)(3/ 1515).
(2)
أخرجه مسلم (1154)(2/ 808).