الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واختيارُ الموتِ عليه، والكِبْرُ إذا استحكَمَ في القلبِ، عَمِيَ العقلُ عن الاختيارِ.
إحباطُ العمل بالرِّدَّةِ:
والرِّدَّةُ تُحبِطُ العملَ السابقَ بلا خلافٍ؛ وإنَّما الخلافُ في عودتِهِ عندَ العودةِ للإسلامِ بعد الرِّدةِ، وفي المسألةِ قولانِ مشهورانِ:
الأوَّلُ: أنَّ الرِّدَّةَ لا تُحبِطُ العمَلَ السابقَ لِمَن عاد إلى الإسلامِ وأنابَ؛ وذلك أنَّ اللهَ قيَّد الإحباطَ في الآيةِ بقولِه: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} ، فمَنِ ارتَدَّ ولم يَمُتْ عَلَى الرِّدَّةِ، عادَتْ حسَنَاتُهُ التي عَمِلَها؛ كالصلاةِ والزكاةِ وسائرِ الطاعاتِ، ولو كان قد أدَّى الحَجَّ، سقَطَ عنه؛ وهذا هو أحدُ القولَيْنِ عن أحمدَ، وقال به الشافعيُّ.
الثاني: أنَّ الرِّدَّةَ تُحبِطُ العملَ بالكليَّةِ، ولا يَرجِعُ عمَلٌ منها إلى صاحِبهِ، ولو كان قد أَدَّى الحجَّ، لَوَجَبَ عليه أن يُعِيدَهُ؛ قال بهذا مالكٌ وأبو حنيفةَ؛ وهو روايةٌ عن أحمدَ.
وقد أجرَى مَن قال بهذا القولِ عمومَ قولِهِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5] على عمومِه، ولم يخصِّصْهُ بآيةِ البابِ.
وفي حَمْلِ الآيةِ عَلَى عمومِها نظَرٌ؛ وذلك أنَّ اللهَ قال: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]، ومَن عاد إلى الإسلامِ بعد رِدَّتِه، فليس مِن الخاسرين؛ وإنَّما المرادُ: مَن مات مرتدًّا.
وتوسَّطَ بعضُ الفقهاءِ مِن الشافعيَّةِ وغيرِهِمْ؛ فقالوا: إنَّ الإحباطَ
للأجرِ فقَطْ، والعمَل في إجزائِهِ ليس بحابطٍ؛ فمَنْ حجَّ، لا يلزَمُهُ أنْ يُعِيدَهُ إذا ارتَدَّ بعدَهُ ثمَّ عاد.
والحَقُّ: أنَّ الأجرَ ثابتٌ للمرتدِّ التائبِ؛ ففي الحديثِ: (إِذَا أَسْلَمَ الْعَبدُ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ، كَتَبَ اللهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا)؛ أخرَجَهُ النَّسائيُّ عن أبي سعيدٍ (1) وأصلُه في الصحيحِ (2).
وفي "الصحيحَيْنِ"، عن عُرْوةَ بنِ الزُّبَيْرِ، أنَّ حَكِيمَ بنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْ رَسُولَ اللهِ، أَرَأيْتَ أمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بها فِي الجَاهِلِيَّةِ؛ مِن صدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ أَوْ صِلةِ رَحِمٍ، أَفِيهَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ)(3).
فهذا عمَلٌ عمِلَهُ حالَ الجاهليَّةِ، ولكنْ أخلَصَ فيه للهِ ولم يَصرِفْ منه لغيرِ اللهِ شيئًا، فاحتَسَبَهُ اللهُ له بعدَ إسلامِه؛ فالجاهليُّونَ مع كفْرِهم يُخلِصُونَ في بعضِ أعمالِهم، فيَخُصُّونَ بها اللهَ وحدَهُ؛ فهذه تُكْتَبُ لهم، فيتقبَّلُ اللهُ ذلك منهم وهم كفَّارٌ؛ فكيفَ بما فعَلَه المسلمُ حالَ إسلامِهِ، ثمَّ ارتَدَّ ثمَّ رجَع؟ ! فقَبُولُ عمَلِهِ حالَ إسلامِهِ أَوْلى مِن قَبُولِ عمَلِهِ حالَ إشراكِه.
ولو قِيلَ بقَبُولِ عمَلِ المُشرِكِ حالَ شِرْكِهِ ممَّا أخلَصَهُ، ولا يُقبَلُ عمَلُ المسلمِ حالَ إسلامِه، للَزِمَ مِن ذلك قَبولُ عمَلِ المرتَدِّ حالَ رِدَّتِهِ ممَّا يُخلِصُ فيه.
فالمسلمُ المرتَدُّ التائبُ له أحوالٌ ثلاثٌ: إسلامٌ ثمّض كفرٌ ثم إسلامٌ؛
(1) أخرجه النسائي (4998)(8/ 105).
(2)
أخرجه البخاري (41)(1/ 17)، ولفظه:(إِذَا أَسْلَم العَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، يُكَفِّرُ اللهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذلك القِصَاصُ: الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهَا).
(3)
أخرجه البخاري (1436)(2/ 114)، ومسلم (123)(1/ 113).