الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهلِكَ"؛ أيْ: أن تَقصِدَ الإحرامَ للحجِّ، لا أن تُحْرِمَ، والمرادُ: ألَّا يُخرِجَهُ لمَكَّةَ مصلحةُ دُنيا يَخلِطُها بدِينٍ، أو تجارةٌ مَعَ نُسُكٍ، فهذا - وإن كان جائزًا وصحيحًا - إلَّا أنَّه ليس إتمامًا؛ فالصحابةُ كعَلِيٍّ، والتابعونَ كسَعِيدٍ: يَعلَمُونَ هَدْيَ النبيِّ وسُنَّتَهُ في هذا، وأنَّه لم يُحرِمْ من بيتِه؛ وإنَّما مِن مِيقَاتِهِ، وهو قريبٌ مِن المدينةِ، مع أنَّ الأسمَحَ له أنْ يتهيَّأَ مِن بَيْتِه، ويَغتسِلَ ويصلِّيَ، ثمَّ يشُدَّ رَحْلَهُ مَرَّةً واحِدةً إلى مكَّةَ، ولكنَّهُ قصَدَ الميقاتَ بالإحرامِ؛ لتأكيدِ اللهِ عليه.
الإحرامُ قبلَ الميقاتِ:
وأمَّا صِحَّةُ الإحرامِ مِن قَبْلِ المِيقَاتِ، فصحيحٌ عند عامَّةِ الفقهاءِ؛ أحرَمَ عِمْرانُ مِن مِصْرَ، وقد أنكَرَ عليه عُمَرُ.
وأحرَمَ ابنُ عُمَرَ مِن بيتِ المَقْدِسِ.
وقد أحرَمَ جماعةٌ مِن بيوتِهم؛ كالأَسْوَدِ وعَلْقَمةَ وعبدِ الرحمنِ وأبي إسحاقَ.
وأحرَمَ وكيعٌ مِن بيتِ المقدِسِ.
وإنَّما قُلْنا فيما سبَقَ: إنَّ الآيةَ نزَلَتْ قبلَ فرْضِ الحَجِّ بصِيغَةِ الأمرِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} ؛ لنبيِّنَ أنَّ الإلزامَ بالإتمامِ لا يَنزِلُ على أصلِ التشريعِ، وهو الحَجُّ؛ وإنَّما على مَن بدَأَهُ أن يَقطَعَهُ، ولنبيِّنَ أنَّ الحجَّ إذا لم يَكُنْ واجبًا حِينَها، فمِن بابِ أَولى أنَّ إنشاءَ القصدِ مِن البيوتِ للحجِّ والعُمْرةِ ليس بواجبٍ، فلو سافَرَ لمصلَحَةِ دُنياهُ وأَتْبَعَها بمصلحةِ دِيِنِهِ، صحَّ؛ كالتاجرِ، وأجزَأَ عنه.
ثمَّ إنَّ المواقيتَ المكانيَّةَ لم تكُنْ حُدِّدَتْ عندَ نزولِ آيةِ الإتمامِ؛ وهذا دليلٌ على أنَّ المقصودَ الإتمامُ، لا سَبْقُ الميقاتِ بالإحرامِ؛ وإنَّما عَقْدُ العزمِ وإنشاءُ السَّفرِ لأجلِ هذا العملِ أعظمُ أجرًا، وأتمُّ ثوابًا، وأكبرُ بَرَكةً.
فاللهُ قرَنَ العُمْرةَ بالحجِّ في وجوبِ الإتمامِ، لا في الابتِداءِ؛ لأنَّ الابتداءَ لم يُفرَضْ بعدُ.
ولذا تعدَّدَتْ تفسيراتُ المفسِّرينَ مِن السلفِ لـ "الإتمامِ" في الآيةِ بما يحقِّقُ معنى إنشاءِ القصدِ والسَّفَرِ الخاصِّ للنُّسُكِ، وإنْ تغايَرَ التفسيرُ مع غيرِهم من المفسِّرين لفظًا، ولكنَّه يؤيِّدُ المعنى الواحدَ السالفَ؛ فقد روى ابنُ جريرٍ، عن طارقِ بنِ شِهَابٍ؛ قال: سألتُ ابنَ مسعودٍ عن امرأةٍ مِنَّا أرادَتْ أن تَجمَعَ معَ حجِّها عُمْرةً؟ فقال: أسمَعُ اللهَ يقولُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]؛ ما أُراها إلَّا أشهُرَ الحجِّ (1).
وروى ابنُ أبي حزمٍ القُطَعِيُّ، قال: سمعتُ محمدَ بنَ سِيرِينَ يَقولُ: "ما أحدٌ مِن أهلِ العلمِ شَكَّ أنَّ عُمْرةً في غيرِ أشهُرِ الحجِّ أفضَلُ مِن عُمْرةٍ في أشهُرِ الحجِّ"(2).
وروى عن سعيدٍ، عن قَتَادةَ قولَهُ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ؛ قال: "وتَمَامُ العُمْرةِ: ما كان في غيرِ أشهُرِ الحَجِّ"(3).
ومُرادُه: ألَّا تجعَلَ العُمْرةَ متَّصِلةً بنفسِ قصدِ الحجِّ وسَفَرِه، بل تُنشِئَ لها سَفَرًا منفرِدًا عنِ الحجِّ.
وروى عن ابنِ عَوْنٍ؛ قالَ: سَمِعْتُ القاسمَ بنَ محمَّدٍ يقولُ: "إنَّ العُمْرةَ في أشهُرِ الحجِّ ليسَتْ بتامَّةٍ، قال: فقيلَ له: العُمْرةُ في المحرَّمِ؟ قال: كانوا يَرَوْنها تامَّةً"(4).
وذلك لأنَّ المحرَّمَ ليس مِن أشهُرِ الحَجِّ التي هي مَظِنَّةُ اشتراكِ القاصدِ لمَكَّةَ الجمعَ بينَ الحجِّ والعمرةِ.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 450 - 451).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 451).
(3)
"تفسير الطبري"(3/ 330).
(4)
"تفسير الطبري"(3/ 331) و (3/ 450).