الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إتيانُ المرأةِ في دبرِهَا عند السلف:
ولا يَختلِفُ السلفُ مِن الصحابةِ والتابعينَ والأئمةِ الأربعةِ: في تحريمِ إتيانِ المرأةِ في دُبُرِها، إلا شيئًا ورَدَ في ذلك عن ابنِ عمرَ، ومحمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ، ومالكٍ.
أمَّا ما جاء عنِ ابنِ عمرَ: فما مِن راوٍ عن ابنِ عمرَ يروِي عنه جوازَ إتيانِ المرأةِ في دُبُرِها إلا وله روايةٌ في تحريمِ ذلك مِن وجهٍ آخَرَ؛ فرَوَى سالمٌ ونافعٌ، عن ابنِ عمرَ: المنعَ؛ كما رُوِيَ عنهما عن ابنِ عمرَ: روايةُ الجوازِ، ومِثلُه: أبو الحُبَابِ سعيدُ بنُ يَسَارٍ رَوَى المنعَ عن ابنِ عمرَ، ورُوِيَ عنه عن ابنِ عمرَ: الجوازُ، وحَمْلُ رأيِهِ على روايةِ الجماعةِ أَوْلى مِن حَمْلِهِ على المُخالِفِ.
وهذا القولُ عن ابنِ عمرَ مع مخالفتِه الصحابةَ والتابعينَ لا يُشارُ إليه، فضلًا عن أنْ يُصارَ إليه؛ كيف وقد جاء عنه رضي الله عنه ما يوافِقُ الصحابةَ ويَجْرِي مع ظاهرِ الدليلِ؟ ! وقد جاء عنه التشديدُ في النهيِ، كما رَوى سعيدُ بنُ يسارٍ:"أنَّه سأَلَ ابنَ عمرَ، فقال له: يا أبا عبدِ الرحمنِ، إنَّا نشترِي الجوَارِيَ فنُحَمِّضُ لَهُنَّ؟ فقال: وما التحميضُ؟ قال: الدُّبُرُ، فقال ابنُ عمرَ: أُفٍّ أفٍّ! يفعلُ ذلك مؤمنٌ؟ ! "(1).
وهكذا جماعةٌ مِن الصحابةِ كما روى قتادةُ عن أبي الدرداءِ؛ قال: "هل يفعلُ ذلك إلا كافرٌ؟ ! "(2).
يعني: الكفرَ الأصغرَ؛ كالطَّعْنِ في النَّسَبِ، والنياحةِ على المَيِّتِ، والانتسابِ لغيرِ الأبِ، ونحوِ ذلك مما دلَّ الدليلُ على تسميتِه كُفْرًا، ورفَعَتْ عنه الأدلةُ الأُخرى الخروجَ مِن الدِّينِ كلِّه.
ويظهَرُ أنَّ الجوازَ الوارِدَ عن ابنِ عمر، أراد به: إتيانَ المرأةِ مِن
(1)"تفسير الطبري"(3/ 752).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 753).
دُبُرِها؛ يعني: مُدْبِرَةً في قُبُلِها، وهذا كانت تَكْرَهُهُ يهودُ، ويقتدِي بهم بعضُ أهلِ المدينِةِ؛ فبيَّنَ ابنُ عمرَ جوازَ هذا الفعلِ بهذه الآيةِ؛ فرواهُ عنه نافعٌ وغيرُه، وقرينةُ ذلك: أنَّ غيرَ واحدٍ مِن الأئمَّةِ المصنِّفينَ كالبخاريِّ وغيرِه يَرْوُونَ ذلك عن ابنِ عمرَ في تفسيرِ هذه الآيةِ، وهذه الآيةُ في إتيانِ المرأةِ مُدْبِرَةً في قُبُلِها لا في دُبُرِها، وهذا سببُ النزولِ؛ كما سلَفَ في حديثِ جابرٍ وغيرِه؛ ففَهِمَ بعضُ أصحابِ ابنِ عمرَ وبعضُ أصحابِ أصحابِه هذا على المعنى غيرِ المرادِ؛ وإلَّا فإنَّ تشديدَ ابنِ عمرَ - كما سلَفَ - في إتيانِ المرأةِ في دُبُرِها: لا يَحْتَمِلُ منه قولًا آخَرَ بالجوازِ، وهكذا يُفهَمُ مِن سياقِ مَن رواهُ عن نافعٍ؛ كابنِ عونٍ عن نافعٍ؛ قال:"قرأتُ ذاتَ يومٍ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، فقال ابنُ عمرَ: أتدري فيمَن نزَلَتْ؟ قلتُ: لا، قال: نزلَتْ في إتيانِ النساءِ في أَدْبَارِهِنَّ"(1).
فإنَّ سبَبَ النزولِ في الإتيانِ مِن الدُّبُرِ في القُبُلِ؛ كما رواهُ جماعةٌ مِن الصحابةِ والتابعينَ، ومِثلُهُ ينبغي حَمْلُ كلامِ ابنِ عمرَ عليه؛ فإنَّ إتيانَ المرأةِ في دُبُرِها لا حاجةَ فيه إلى إقبالِها أو إدبارِها، ولأنَّ الحُكُمَ لم تَنْزِلْ فيه هذه الآيةُ باتِّفاقِهم.
وعلى هذا تُحْمَلُ روايةُ أيُّوبَ عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ، في هذه الآيةِ؛ قال:"في الدُّبُرِ"(2)؛ يعني: مُدبِرةً لا مُقبِلةً، ولم يُرِدِ الصمامَ الذي يُوضَعُ فيه؛ فإنَّ الآيةَ لم تَنزِلْ في حُكمِهِ أصلًا، وإنَّما تَبَعًا.
ومِثلُ أيوبَ عن نافعٍ: مَنْ رواهُ عن نافعٍ بنحوِ هذا اللفظِ والسياقِ؛ كابنِ عَوْنٍ، وعُبَيْدِ اللهِ بنِ عمرَ بنِ حَفْصٍ، ومحمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ذِئْبٍ، وكذلك روايةُ مالكٍ التي صحَّحَها عن نافعٍ الدارقطنيُّ بنحوِ روايةِ غيرِه.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 751).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 752).
ونافعٌ روى عن ابنِ عمرَ هذا السياقَ في تفسيرِ الآيةِ، لا رأيًا مستقلًّا في الفقهِ والفتوى، وكلُّ مَن رواه عنه رواهُ في هذه الآيةِ لا في غيرِها، وكلُّ ما جاء عن ابنِ عمرَ في الرواياتِ: أنَّه قال في إتيانِ المرأةِ مِن دُبُرِها في غيرِ هذه الآيةِ، فلا يثبُتُ منها شيءٌ، إلا ما رواهُ النَّسَائيُّ عن عبدِ الرحمنِ بنِ القاسمِ؛ قال:"قلتُ لمالكٍ: إنَّ عندَنا بمِصْرَ اللَّيْثَ بنَ سَعْدٍ يحدِّثُ عن الحارثِ بنِ يعقوبَ، عن سعيدِ بنِ يسارٍ؛ قال: قلتُ لابنِ عمرَ: إنَّا نشترِي الجواريَ، فنُحَمِّضُ لَهُنَّ، قال: وما التحميضُ؟ قال: نَأْتِيهِنَّ في أدبارِهِنَّ، قال: أُفّ! أَوَ يَعْمَلُ هذا مسلِمٌ؟ ! فقال لي مالكٌ: فأَشهَدُ على ربيعةَ لَحَدَّثَنِي عن سعيدِ بنِ يسارٍ؛ أنَّه سأَلَ ابنَ عُمَرَ عنه؟ فقال: لا بأسَ به"(1).
وهو صحيحٌ عن ابنِ عمرَ بلفظَيْهِ، وحَمْلُهُ على قولِ الجماعةِ وفتواهُمْ وتفسيرِهِمْ أَوْجَهُ وأَسْلَمُ وأَقْوَمُ.
ورواهُ سالمٌ وعبيدُ اللهِ أبناءُ ابنِ عمرَ عن أبِيهم، وروايتُهم معلولةٌ.
وقد جاء عن نافعٍ - وعنه عن ابنِ عمرَ - المعنى الموافقُ لتفسيرِ السلفِ للآيةِ، كما رواهُ النَّسَائيُّ في "الكُبْرى"، عن عبدِ اللهِ بنِ سُلَيْمانَ الطويلِ، عن كَعْبِ بنِ عَلْقَمةَ، عن أبي النَّضْرِ؛ أنَّه قال لنافعٍ مَوْلَى ابنِ عمرَ: قد أَكْثَرَ عليك القولَ أنَّك تقولُ عن ابنِ عمرَ أنَّه أَفْتَى بأنْ يُؤتَى النساءُ في أدبارِهِنَّ! قال نافعٌ: لقد كَذَبُوا عَلَيَّ! ولكنْ سأُخبِرُك كيف كان الأمرُ: إنَّ ابنَ عمَرَ عَرَضَ عليَّ المُصْحَفَ يومًا، وأنا عندَهُ حتى بلَغَ:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ، قال: يا نافعُ، هل تَعْلَمُ ما أمرُ هذه الآيةِ؟ إنَّا كنَّا معشرَ قريشٍ نُجَبِّي النساءَ، فلمَّا دخَلْنا المدينةَ ونَكَحْنا نساءَ الأنصارِ أَرَدْنا مِنْهُنَّ ما كنَّا نُرِيدُ مِن نسائِنا؛ فإذا هُنَّ قد كَرِهْنَ ذلك وأَعْظَمْنَهُ، وكان
(1) أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(8930)(8/ 190).
نساءُ الأنصارِ إنَّما يُؤْتَيْنَ على جُنُوبِهِنَّ؛ فأنزَلَ اللهُ سبحانَه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1).
والطويلُ يُحْتَمَلُ حديثُه.
ويَحْتمِلُ أنَّ هذا القولَ ظَنَّهُ ابنُ عمرَ على معنى الإتيانِ في الدُّبُرِ، لا مِن الدُّبُرِ في القُبُلِ، فوَهِمَ في المعنى؛ ولذا صحَّ عن ابنِ عباسٍ أنَّه قال:"إنَّ ابنَ عمرَ - واللهُ يَغْفِرُ له - أَوْهَمَ"(2).
ثمَّ ذكَرَ ابنُ عباسٍ سبَبَ نزولِ الآيةِ، وقد صحَّ هذا عن ابنِ عباسٍ؛ رواهُ أبَانُ بنُ صالحٍ، عن مجاهدٍ، عنه، ولعلَّ ابنَ عُمَرَ لمَّا بانَ له الأمرُ ترَكَهُ، وهكذا مَنْ نقَلَ قولَهُ وأخَذَ به، فله قولٌ يُخالِفُهُ؛ كنافعٍ ومالكٍ يُوافِقُ الجماعةَ، وحَمْلُ أقوالِهم على ما اتَّفَقَتْ عليه كلمةُ عامَّةِ المفسِّرينَ الذين رُوِيَ عنهم القولُ فيها مِن الصحابةِ والتابعينَ وفَهِمُوهُ مِن الآيةِ: أحْرَى وأَوْلَى.
وأمَّا ما جاءَ عن ابنِ المُنْكَدِرِ: فقد رواهُ عبدُ المَلِكِ بنُ مَسْلَمةَ، عن الدَّرَاوَرْدِيِّ؛ قال: قيل لزَيْدِ بنِ أَسْلَمَ: إنَّ محمَّدَ بنَ المنكَدِرِ يَنْهَى عن إتيانِ النساءِ في أدبارِهِنَّ، فقال زيدٌ: أَشْهَدُ على محمَّدٍ لَأَخْبَرَني أنَّه يفعَلُهُ (3).
وعبدُ الملِكِ منكَرُ الحديثِ؛ قاله أبو زُرعةَ وغيرُهُ، وقال أبو حاتمٍ:"مضطرِبُ الحديثِ، ليس بالقويِّ"(4).
والأحاديثُ الواردةُ في النهي عن إتيانِ المرأةِ في الدُّبُرِ وإنْ كانت معلولةً منفرِدةً، فكَثْرَتُها تدُلُّ على أَصلِها، وفي ظاهرِ القرآنِ وإطباقِ عامَّةِ السلفِ غُنْيَةٌ وكفايةُ.
وقد أخَذَ بعضُ السلفِ مِنْ قولِهِ: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : جوازَ
(1) أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(8929)(8/ 190).
(2)
أخرجه أبو داود (2164)(2/ 249).
(3)
"تفسير الطبري"(3/ 751).
(4)
"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 371).
العَزْلِ، فكما أَذِنَ اللهُ بالإتيانِ عدَ الحاجةِ، فكذلك الولدُ - وهو الزرعُ - يُطلَبُ عندَ الحاجةِ؛ ومِن هذا قولُ ابنِ عباسٍ في هذه الآيةِ:"إِن شِئْتَ فَاعْزِلْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَعْزِلْ"؛ وبنحوِه عن ابنِ المسيَّبِ (1).
وقولُه تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} : قيل: المرادُ به ما شَرَعَهُ اللهُ عندَ الجِمَاعِ مِن ذِكْرِ اللهِ، وحُسْنِ القَصْدِ، وطبِ الولدِ؛ رجاءَ عَوْنِهِ وعبادتِهِ للهِ وطاعتِهِ له؛ رَوَى عطاءٌ عن ابنِ عباسِ:{وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} ؛ قال: "يقولُ: باسمِ اللهِ"(2).
ورُوِيَ عن عِكْرِمةَ؛ أنَّ المرادَ بـ {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} ؛ يعني: الولَدَ (3).
* * *
قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224].
دَلَّتِ الآيةُ على النهيِ عن النَّذْرِ واليمينِ الي تُتَّخَذُ مُلزِمةً للعبدِ ألَّا يُطِيعَ اللهَ، ولا يعملَ البِرَّ ولا يُحسِنَ إلى الناسِ، فإذا أراد أحدٌ عدَمَ فعلِ الخيرِ، أقَسَمَ على نفسِه أنْ يترُكَ الخيرَ، فيجعَلُ اليمينَ حائلةً بينَهُ وبينَ الطاعةِ والإحسانِ؛ فهو يعظِّمُ اليمينَ لأجلِ أنَّه حلَفَ باللهِ، ولا يعظِّمُ أمرَ اللهِ الذي أمَرَ بالطاعةِ والمعروفِ والإحسانِ؛ فكأنَّه يَضرِبُ أمرَ اللهِ بتعظيمِ اللهِ؛ ليحقِّقَ رغْبَتَهُ وهواهُ في تركِ ما لا يُرِيدُ مِن الخيرِ والبِرِّ والإحسانِ إلى الناسِ.
فقولُهُ: {عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} ؛ يعني: عارِضًا قويًّا تتَّخِذُونَهُ وتتساهَلُونَ به، في إلزامِ أنفُسِكُمْ بتركِ الخيرِ والِبرِّ.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 754).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 762).
(3)
"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 405).