الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصفٍ ومقدارِ معلومٍ إلى أَجَلٍ، لا على عَيْنٍ مَعلومةٍ.
ويجبُ عندَ السَّلَمِ تسليمُ الثمنِ العاجلِ وإحضارُهُ، فلا يجوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ بالدَّيْنِ الكالئِ بالكالئِ.
وفي الآيةِ: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وجوبُ معرفةِ الأجَلِ وتحديدِه، وتحريمُ السلَمِ إلى أجلِ مجهولٍ، وعدَمُ صحَّتِهِ بلا خلافِ، وقال الشافعيُّ بجوازِ السَّلَمِ الحالِّ؛ لانتفاءِ علَّةِ الجهالةِ في الأَجَلِ.
والعلماءُ يختلِفونَ في تقديرِ أدنى الأجلِ وأعلاهُ؛ حتَّى قال بعضُ الفقهاءِ؛ أَدْنَاهُ يومٌ.
ولا دليلَ على ذلك كلِّه، إلا أنَّ السَّلَمَ لا يتحقَّقُ الا بعَيْنٍ آجِلَةٍ، وثمنٍ عاجلٍ؛ فإنَّه إن كان بثمنٍ عاجلٍ، وسِلْعةٍ عاجلةٍ؛ فإنْ كانتِ السِّلْعةُ معيَّنةً مملوكةً، فهذا بيعٌ، لا سَلَمٌ، وإنْ كانتِ السلعةً معيَّنةً غيرَ مملوكةٍ، فهذا بيعُ ما لا يَملِكُ، وهو محرَّمٌ، وإنْ كانتِ السلعةُ غيرَ معيَّنةِ ولو كانت مملوكةً، فهذا بَيعُ جَهَالةٍ وغَرَرٍ، وإن كانت غيرَ معيَّنةٍ ولا مملوكةٍ، فهذا اجتمَعَ فِه الغررُ وبيعُ ما لا يَملِكُهُ الإنسانُ.
ويغتفرُ بعضُ الفقهاءِ - كمالكٍ - الغرَرَ اليَسِبرَ في الأجلِ، كالأجلِ إلى الحصادِ؛ وهو قولُ ابنِ عُمَرَ، ومنَعَ منهُ جمهورُ العلماءِ؛ كأبي حنيفةَ والشافعيِّ، وظاهرُ المذهبِ عندَ الحنابلةِ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ.
حكمُ كتابةِ عقودِ الدُّيُون والبيوع:
وقولُه تعَالى: {فَاكْتُبُوهُ} أمَرَ بالكتابةِ لضَبطِها؛ حفظًا للحقوقِ، ودفعًا للنِّزاعِ والطمعِ؛ وذلك أنَّ اللهَ قال بعدُ في التجارةِ:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} ، فرفعَ الحرَجَ في التجارةِ؛ ليُثْبِتَهُ في المدايَنةِ.
واختلَفَ العَلماءُ في حكمِ كتابةِ الديونِ على قولَيْنِ:
أحدهما: الوجوبُ؛ فقد أخَذَ بظاهرِ الأمرِ؛ فأوجَبَها بعضُ السلفِ، ورجَّحهُ الطَّبَريُّ، وهذا مرويٌّ عنِ ابنِ عباسٍ، فقد روى ابنُ المنذِرِ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحَةَ، عنِ ابنِ عَبَّاسٍ؛ في قولهِ عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} : "فأمَرَ بالشهادةِ بَينَهُم عند المكاتَبةِ؛ لكيلا يدخُلَ في ذلك جحودٌ ولا نِسيانٌ؛ فمَن لم يُشهِدْ على ذلك مِنكُم، فقد عَصَى"(1).
القول الثاني: ذهَبَ إليه أكثرُ العلماءِ، وهو أنَّ الأمرَ على الاستحبابِ، وبه قالَ الشَّعْبيُّ والحسنُ ومالكٌ وغيرُهُ؛ وذلك أنَّ المالَ حقٌّ لصاحبِهِ، وله حقُّ إسقاطِهِ كلِّه وإبراءِ المَدِينِ منه؛ وهذا هو الأظهَرُ؛ فالأمرُ للدَّلَالةِ والإرشادِ لحفظِ الحقِّ، ومَن أسقَطَ البيِّنةَ على حقِّه، فإنَّما ترَكَ توثيقَ حقِّهِ وأسقَطَهُ بنفسِهِ، والكتابةُ لا تجبُ في عقودِ النكاحِ، وهيَ أعظَمُ مِن المالِ؛ وإنَّما يُكتفى بالشهودِ؛ لعِظَمِ الأبضاعِ في الشرعِ والطَّبْعِ.
وإيجابُ الكتابةِ في الدَّيْنِ مشقَّةٌ مع حاجةِ الناسِ إلى المالِ وتبادُلِهِمْ لهُ لي الأسواقِ والبيوتِ والأسفارِ، فيتعاطَوْنَ الدراهمَ والدنانيرَ فُرَادَى في وقتِ الأُمِّيَّةِ، وربَّما تدايَنُوا بالقليلِ كالدِّرْهَمِ والمُدِّ والمُدَّينِ، ومثلُ هذا في إيجابِ كتابتِهِ كُلْفةٌ وعُسْرٌ، ولكنْ لا خلافَ في استحبابِ الكتابةِ، وكلَّما عَظُمَ المالُ وكَثُرَ الشركاءُ وتأخَّرَ الأجلُ، تأكَّدتِ الكتابةُ؛ لِغَلَبَةِ الظنِّ بورودِ الزاعِ وموتِ المتدايِنِينَ.
وقد تجبُ الكتابةُ عندَ غَلَبةِ الظنِّ بالخصومةِ والنزاعِ وضياعِ الحقوقِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقولُ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} ؛ وفي هذا بيانُ الحِكْمةِ مِن الكتابةِ والإشهادِ؛ حفظًا للحقوقِ، ودفعًا للشكِّ والريبِ والنِّسْيانِ.
(1)"تفسير ابن المنذر"(1/ 67).