الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصلُ في النكاحِ الحِلُّ:
وقد يُقالُ: إنَّ الأصلَ في النكاحِ: الحِلُّ عندَ توافُرِ شروطِه وانتفاءِ موانعِه؛ فالمحرَّماتُ على التأبيدِ على الإنسانِ قليلةٌ، والمباحاتُ له على الدوامِ أكثرُ، ولكنَّ الشريعةَ ضبَطَتِ الإباحةَ وقيَّدتْها؛ ولذا قال اللهُ تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فأطلَقَ الحِلَّ ووصَفَهُ بالطيِّبِ، ثمَّ بَيَّنَ قيودَهُ.
وكما أنَّ اللهَ أباحَ للإنسانِ لحمَ الحيوانِ، وقيَّدَ إباحتَهُ بأنْ يكونَ ذُبِحَ للهِ لا لغيرِه، كذلك النكاحُ الأصلُ فيه الحِلُّ، ويُشترَطُ أن يكونَ على حُكْمِ اللهِ وشروطِهِ التي وضَعَ، وكذلك فيجوزُ له وَطْءُ الإماءِ بلا عددٍ وحصرٍ.
هذا وجهٌ لمَن قال: "إنَّ الأصلَ في الفُرُوجِ الإباحةُ".
والأشهرُ القولُ بالتحريمِ؛ لأنَّ ما خصَّصه الشارع له أقلُّ ممَّا منَعَهُ منه، فقيَّدَ له الجمْعَ بأربعةِ شروطٍ، ومنَعَه من الزيادةِ.
وذكَرَ جماعةٌ مِن الفقهاءِ مِن المالكيَّةِ والشافعيَّةِ وغيرِهم: أنَّ الأصلَ في الحَيَوانِ التحريمُ؛ قالوا: لأنَّه لا يَحِلُّ إلا بالذَّكَاةِ والصيدِ، ويَضبِطونَ القاعدةَ بقولِهم:"الأصلُ في الذبائحِ والصيدِ: التحريمُ"؛ وهذا صحيحٌ، ولكنَّ ذَبْحَهُ وصيدَهُ لا يُخرِجُهُ عن أصلِ إباحتِه.
والأصلُ المتقرِّرُ عندَ الشافعيِّ: حِلُّ الأشياءِ، إلا ما فُصِّلَ تحريمُهُ بدليلٍ.
وإنَّما ذكرَ اللهُ الأرضَ؛ لدخولِ جميعِ أجزائِها فيها؛ كالبحرِ والنهرِ والبَرِّ، سهلًا وجبلًا؛ فالأرضُ اسمٌ لعمومِ ما كان تحتَ قدمِ الإنسانِ.
سَعَةُ الحلالِ، وضيقُ الحرامِ:
ونهيُهُ سبحانَهُ عن اتِّباعِ خطواتِ الشيطانِ: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} : إشارةٌ إلى أنَّ هناك محرَّماتٍ مستثناةً مِن الأصلِ المباحِ، ولكنَّها يسيرةٌ، فوصَفَها بالخطواتِ مِن سَعَةِ الأرضِ؛ فاللهُ سبحانه أباح الأرضَ بأميالِها سهولًا وجبالًا، وبحارًا وأنهارًا، وحَرَّمَ خطواتٍ يسيرةً للشيطانِ، وإذا انشغَلَ عقلُ الإنسادِ بخطواتِ الشيطانِ، أحبَّها ورأَى أنَّها تعادِلُ سَعةَ الأرضِ، وأنَّ حريَّتَهُ سُلِبَتْ.
وكثيرٌ مِن المنشغلينَ بمبادئِ الحرياتِ في عصرِنا يُدِيمُ النظرَ في الممنوعِ الضيِّقِ، ويعطِّلُ نظرَهُ عن المباحِ الواسعِ؛ فيَرَى أنَّ الممنوعَ أعظمُ وأوسعُ، فيَرَى أنَّه سُلِبَ حريةَ الاختيارِ، واللهُ أحَلَّ الأرضَ كلَّها، وحرَّمَ خطواتِ يسيرةً منها، والحريةُ أنْ تعيشَ في سَعَةِ الأرضِ، لا في ضِيقِ الخطواتِ، ومَن عاش في ضِيقِ خطواتِ الشيطانِ، فإنَّه لا يُبصِرُ أنَّ الشيطانَ سلَبَهُ حريتَهُ مِن الأرضِ الواسعةِ؛ ليُقَيِّدَ عيشَهُ في خطواتٍ منها.
واللهُ تعالى وصَفَ الشيطانَ بالعداوةِ للإنسانِ، والعداوةُ للإنسانِ على مراتبَ؛ أعلاها وأَبْيَنُها وضوحًا: العداوةُ التي لا ينتفعُ منها المعتدِي، وإنَّما يفعلُها كيدًا ومَكْرًا بالعدوِّ، وهذه عداوةُ إبليسَ، فليس له انتفاعٌ مِن عداوةِ الإنسانِ؛ ولذا وصَفَ اللهُ عداوتَه بالمُبِينَةِ:{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} .
وعداوةُ إبليسَ واضحةٌ؛ فليستِ انتقامًا تشتبِهُ بطلبِ حقٍّ، أو انتصارًا مِن مَظْلِمَةٍ، وهذه العداوةُ المُبِينَةُ التي لا تحتاجُ إلى إيضاحٍ وتحذيرٍ لكلِّ أحدٍ، ومع ذلك: حذَّرَ اللهُ عبادَهُ مِن عداوةِ الشيطانِ؛ لأنَّ الشيطانَ لا يأتي للإنسانِ بصفتِه الشيطانيَّةِ الإبليسيَّةِ، ولكنْ يأتِيهِ مسوِّلًا له أنَّ هذا في صالحِهِ ومنفعتِه؛ ولذا الْتبَستْ عداوتُه؛ فاللهُ يبيِّنُ
حِيَلَهُ ومكايدَهُ وتلبيسَهُ أكثرَ مِن بيانِ حالِه في ذاتِه؛ لأنَّها لا تخفَى.
واللهُ إنَّما نَهَى عن اتِّباعِ خطواتِ الشيطانِ؛ تنبيهًا إلى أنَّ الإنسانَ بوقوعِهِ في المحرَّمِ يَتَّبِعُ طريقَ الشيطانِ وفِعْلَهُ؛ فالتتبُّعُ هو تقصِّي الأثرِ لطريقٍ سُلِكَ مِن قبلُ.
ويَظهرُ من الآيةِ: أنَّه ما مِن محرَّمٍ على الإنسانِ إلا والشيطانُ يفعلُهُ؛ إذا كان مما يَقدِرُ على فعلِهِ لطبيعتِه الخَلْقيَّةِ، ويُظهِرُ هذا: أنَّ الشارعَ كثيرًا ما ينهَى عن أشياءَ، ويعلِّلُ النهيَ عن فِعلِها بكونِ الشيطانِ يفعلُها؛ كالأكلِ بالشمالِ، والمشيِ بنعلٍ واحدةٍ، ونحوِ ذلك.
وفي الآيةِ: قرينةٌ لِمَنْ مالَ إلى تحريمِ الأفعالِ التي دلَّ الدليلُ على أنَّ الشيطانَ يفعلُها، وأنَّ النهيَ عنها على التحريمِ لا على الكراهةِ؛ فاللهُ جعَلَ خطواتِ الشيطانِ بمقامِ أعمالِه، فخطواتُهُ: أعمالُهُ؛ هكذا فسَّرَهُ السلفُ؛ فقد روى الطبريُّ؛ مِن حديثِ معاويةَ بنِ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ؛ قولَهُ:{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ؛ يقولُ: عملَهُ (1)، وصحَّ عن مجاهدٍ، وقتادةَ: أنَّها خطاياهُ (2).
وهذه مسألةٌ لها مواضعُ لبسطِها.
وقد جعَلَ بعضُ السلفِ: أنَّ ما يحرِّمُهُ الإنسانُ على نفسِه ممَّا يخالِفُ أصلَ الحِلِّ ممَّا لا نصَّ فيه: مِن خطواتِ الشيطانِ؛ فسَّرَهُ بذلك ابنُ مسعودٍ وغيرُهُ؛ فقد روى الطَّبَرانيُّ والبيهقيُّ مِن حديثِ أبي الضُّحَا، عن مسروقٍ؛ قال: أُتِيَ عبدُ اللهِ بضَرْعٍ، فأخَذَ يأكُلُ منه، فقال للقومِ: ادْنُوا، فدَنَا القومُ، وتنحَّى رجلٌ منهم، فقال عبدُ اللهِ: ما شأنُك؟ قال: إنِّي حَرَّمْتُ الضَّرْعَ، قال: هذا مِن خُطُواتِ الشيطانِ، ادْنُ، وكُلْ، وكَفِّرْ
(1)"تفسير الطبري"(3/ 38).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 38).
يَمِينَكَ، ثمَّ تلا:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87](1).
وقد روى سعيدُ بن منصورٍ وابنُ جريرٍ، عن سُلَيْمانَ، عن أبي مِجْلَزٍ؛ في قولِه:{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ؛ قال: "هي النذورُ في المعاصِي"(2).
ويَظهرُ هذا التأويلُ في قولِه تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} الآياتِ [الأنعام: 142 - 143]؛ فذكَرَ الأصلَ، وهو الحِلُّ، ثمَّ حذَّرَ مِن خطواتِ الشيطانِ، وفصَّلَ بينَ الحِلِّ وتحريمِ الشيطانِ.
واللهُ تعالى وجَّهَ الخطابَ لعمومِ الناسِ في قولِه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} ، وتوجيهُ الخطابِ للعمومِ، دليلٌ أنَّ مضمونَ الخطابِ عامٌّ؛ إما في التحليلِ أو التحريمِ، وكلَّما اتَّسَعَتْ دائرةُ المخاطَبِينَ، اتَّسعَ مضمونُ خطابِهم.
ويدخُلُ في عمومِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} عمومُ البشرِ؛ المسلمُ والكافرُ، والخطابُ إذا توجَّهَ إلى أهلِ مِلَّتَيْنِ دلَّ على عمومِه، ولا يدخُلُهُ التقييدُ إلا في النادرِ.
وقد اختَلفَ العلماءُ في دخولِ الكفارِ في خطابِ العمومِ في هذه الآيةِ، وهل يحاسَبُونَ في الآخِرةِ على الأكلِ مِن الأرضِ مما يُباحُ للمؤمنينَ؟ وهذا يأتي تفصيلُهُ إن شاءَ اللهُ عندَ تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]، وقولِهِ:
(1) أخرجه الطبراني في "الكبير"(8908)(9/ 184)، والبيهقي في "الكبرى"(7/ 354).
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في "تفسيره"(242)(2/ 643)، وابن جرير في "تفسيره"(3/ 39).