الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروى ابنُ جريرٍ الطبريُّ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ ومجاهدٍ قالا: قامَ بعضُهم إلى بعضٍ بالخَناجِرِ يقتُلُ بعضُهم بعضًا، لا يَحِنُّ رجلٌ على رجلٍ قريبٍ ولا بعيدٍ، حتى أَلْوَى موسى بثوبِهِ، فطرَحُوا ما بأيدِيهم، فتكشَّفَ عن سبعينَ ألفَ قتيلٍ، وإنَّ اللهَ أوْحَى إلى موسَى: أن حَسْبِي، فقدِ اكْتَفَيْتُ! فذلكَ حينَ أَلْوَى بثوبِهِ (1).
إقامةُ الحدودِ بالإمامِ ونُوَّابه:
وهؤلاءِ أقامُوا حَدَّ اللهِ على أنفسِهم بأمرِ اللهِ وبلاغِ موسى، وفي هدا إشارةٌ إلى أنَّ حدودَ اللهِ وأحكامَهُ يجوزُ أنْ يُقِيمَها الناسُ فيما بينَهم عندَ تحقُّقِ العدلِ وانتفاءِ الظلمِ والبغيِ، وذلك بأمرِ الإمامِ ومباشَرةِ صاحِبِ الحَقِّ بنفسِهِ بقتلِ قاتِلِ وليِّهِ بإذنِ الإمامِ، وهو صحيحٌ في قولِ جمهورِ العلماءِ؛ لقولِه تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33].
ولِمَا روى مسلمٌ في "صحيحِه"؛ مِن حديثِ عَلْقمةَ بنِ وائلٍ؛ أنَّ أباهُ حدَّثَهُ قال: إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا قَتَلَ أَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(أَقتَلْتَهُ؟ ) - فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ، أَقَمْتُ عَلَيْهِ البَيِّنَةَ - قَالَ: نَعَمْ قَتَلْتُهُ، قَالَ:(كَيْفَ قتَلْتَهُ؟ )، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِن شَجَرَةٍ، فَسَبَّنِي، فَأَغضَبَنِي، فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ، فَقَتَلْتُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ؟ )، قَالَ: مَا لِي مَالٌ إِلَّا كِسَائِي وَفَأْسِي، قَالَ:(فَتَرَى قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ؟ )، قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ، فَرَمَى إِلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ، وَقَالَ:(دُونَكَ صَاحِبَكَ)، فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ
(1)"تفسير الطبري"(1/ 680).
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنْ قَتَلَهُ، فَهُوَ مِثْلُهُ)، فَرَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ:(إِنْ قَتَلَهُ، فَهُوَ مِثْلُهُ)، وَأخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ؟ ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ، وَإِثْمِ صَاحِبِكَ؟ )، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ - لَعَلَّهُ قَالَ: بَلَى - قَالَ: (فَإِنَّ ذَاكَ كَذَاكَ)، قَالَ: فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخلَّى سَبِيلَهُ (1).
فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم دفَعَهُ إليه بقولِه: (دُونَكَ صَاحِبَكَ).
وإلى هذا ذهَبَ جماعةٌ مِن السلفِ؛ كابنِ عباسٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، ومجاهدٍ، وطَلْقِ بنِ حبيبٍ، وقتادةَ، وجماعةٍ.
وقولُهُ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ: (إِنْ قَتَلَهُ، فَهُوَ مِثْلُهُ)؛ أيْ: أنَّه لا فَضْلَ ولا مِنَّةَ لأحدِهما على الآخَرِ؛ لأنَّه أخَذَ حقَّهُ واستَوْفاه؛ فلبس له أَجْر، ولا جميلُ ذِكْر.
وظاهرُ مذهبِ الحنابلةِ: أنَّ حضورَ الوالي أو نائبِهِ واجبٌ؛ خوفًا مِن التعدِّي (2).
ومذهبُ الشافعيَّةِ: أنَّ حضورَه مسنونٌ؛ إذا كان وليُّ الدمِ ثقةً عدلًا.
والأصلُ: أنَّه لا بُدَّ مِن أخذِ إذنِ وليِّ الأمرِ في الاستيفاءِ، ومَنِ استَوْفاهُ بنفسِهِ، مضَى استيفاؤُهُ إذا كان وَفْقَ حُكْمِ الله، وللوالي تَعْزِيرُهُ لافتئاتِه عليه، وله العفوُ عنه.
روى ابنُ أبي حاتمٍ في "تفسيرِه"، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه؛ فِي قولِهِ تعالى:{فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]؛ قال:
(1) أخرجه مسلم (1680)(3/ 1307).
(2)
"المغني"(8/ 306).