الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرَّائي، على وصفٍ حَدَّهُ اللهُ لهم، لا يُزادُ عليه ولا يُنقَصُ، وذكَرَ القواعدَ لبيانِ أنَّ حَدَّها في الأرضِ موقوفٌ لا يتَّسِعُ ولا يَضِيقُ لرغبةِ أحدٍ أو لهَوَاه.
المَنَارةُ للمسجدِ:
ويُستَحَبُّ رفعُ المساجدِ وإبرارُها لتُرى وتُعرَفَ مِن القاصِدِينَ، حاضِرِينَ أو مسافِرِينَ، وأمَّا وضعُ المِئْذَنةِ للمسجدِ، وتُسمَّى:"المنارةَ"، فلم تكنْ معروفةً في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا زمنِ الخلفاءِ الراشِدِين.
وقد ذكَرَ البَلَاذُرِيُّ في "فتوحِ البُلْدانِ": أنَّ أولَ مِئْذَنةٍ بُنِيَتْ في الإسلامِ كانتْ على يدِ زيادِ ابنِ أبيهِ عاملِ معاويةَ على البَصْرةِ عامَ خمسةٍ وأربعينَ (1).
وذكَرَ المَقْرِيزيُّ: أنَّ أولَ مآذنِ الإسلامِ: ما وُضِعَ في جامعِ عمرِو بنِ العاصِ مِن صَوَامِعَ أربعٍ فوقَهُ، بناها مَسْلَمَةُ بنُ مخلَّدٍ والي مصرَ في أولِ زمنِ بني أُمَيَّةَ، ثمَّ أصبَحَتْ علامةً للمساجدِ تُعرَفُ بها (2).
وقد كان السلفُ في الصَّدْرِ الأولِ يؤذِّنونَ على السُّطُوحِ، وكانوا يُسمُّونَ سَطْحَ المسجدِ:"مَنَارةً"، وليس المرادُ به: ما يصطلِحُ عليه الناسُ في زمانِنا أنَّ المنارةَ هي البناءُ والأعمدةُ التي تُرفَعُ طويلًا.
ففي "المصنَّفِ" لابنِ أبي شَيْبةَ: عن عبدِ اللهِ بنِ شَقِيقٍ؛ قال: "مِن السُّنَّةِ الأذَانُ في المَنَارةِ، والإقامةُ في المسجدِ، وكان ابنُ مسعودٍ يَفعَلُه"(3). ومرادُه بذلك: سطحُ المسجدِ.
وما يُترجِمُ عليه الأئمةُ في مصنَّفاتِهم؛ كأبي داودَ في "سننِه"؛ قال:
(1)"فتوح البلدان"(1/ 339).
(2)
ينظر: "النجوم الزاهرة، في ملوك مصر والقاهرة"(1/ 68).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2331)(1/ 203).
"بابُ الأذانِ فوقَ المَنَارةِ"(1). وبمعناهُ عندَ ابنِ أبي شَيْبةَ في "مصنَّفِه"، والبيهقيِّ في "سننِه" (2) - فمرادُهم بدلك السطوحُ؛ ولذا قال في الأثرِ السابقِ:"الأذانُ في المنارةِ، والإقامةُ في المسجدِ"؛ يعني: فوقَ المسجدِ وداخِلَهُ.
والحِكْمةُ مِن الأذانِ فوقَ السطوحِ: الإسماعُ، ومع حصولِ الأجهزةِ الحديثةِ، فلا حاجةَ إلى ذلك؛ فالصعودُ ليس سُنَّةً في ذاتِه، وأمَّا صنع المآذنِ والمنارات في المساجدِ، فمستَحَبٌّ لكثرةِ الناسِ وتباعُدِهِمْ عن المساجدِ في زمنِنا، وكثرةِ ما يَمْنَعُ وصولَ الصوتِ إليهم مِن تطوُّرِ البناءِ الذي يَعْزِلُ الصوتَ، وكثرةِ الموانعِ مِن السماعِ مِن الآلاتِ والسياراتِ؛ فقد استُحبَّ صنعُ المناراتِ والمآذنِ ليتحقَّقَ المقصودُ مِن السماعِ.
* * *
قال اللهُ تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144]، وقال:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 149].
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم كثيرَ النظرِ إلى السماءِ تأمُّلًا وتدبُّرًا وتفكُّرًا؛ وهذا مِن العباداتِ التي قلَّ مَن يفعلُها، وإنْ نظَرَ الناسُ إلى السماءِ، نظَرُوا إعجابًا وتَسْلِيَةً، لا تعظيمًا للخالقِ بتأمُّلِ عظيم مخلوقِه؛ فكثيرًا ما يذكُرُ اللهُ خَلْقَ السمواتِ والأرضِ أنَّه آياتٌ لأُولي الأَلبابِ؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي
(1)"سنن أبي داود"(1/ 143).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 203)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 425).
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، ويدلِّلُ سبحانَهُ على ربوبيَّتِهِ وألوهيَّتِهِ بخلقِهما؛ فقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61].
والنظرُ والتفكُّرُ في العظيمِ يُعطي الإنسانَ احتقارًا لما دونَهُ خَلْقًا، فيستَدِلُّ بشيءٍ على شيءٍ آخَرَ دونَهُ بقياسِ الأَوْلى؛ قال اللهُ تعالى:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81]، وقال تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57].
ويستدِلُّ سبحانَهُ على قدرتِهِ على التصرُّفِ في الناسِ وإفنائِهم، وإعادةِ خَلْقِهم؛ بالسمواتِ والأرضِ:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19].
ويستدِلُّ على توقُّفِ الزمنِ وقيامِ الساعةِ بملكوتِ السمواتِ ودَوَرانِ الأفلاكِ والأرضِ ودَوَرانِ صورةِ الخلقِ في الأرضِ، تبتدِئُ ثمَّ تنتهي؛ وهذا كلُّه علامةٌ على قيامِ الساعةِ، فالمتحرِّكُ لا بُدَّ أنْ يسكُنَ؛ لأنَّ حركتَهُ كانتْ بعدَ سكونٍ، وسكونَهُ كان بعدَ عدم؛ قال تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185].
واللهُ تعالى يقدِّمُ السمواتِ على الأرضِ غالبًا؛ لأنَّ السمواتِ أعظَمُ خَلْقًا، وأظهَرُ نظرًا، وأكثرُ عِبَرًا، وقد يقدِّمُ نادرًا الأرضَ على السمواتِ؛ قال تعالى:{تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه: 4]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]، وقال تعالى:{وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 38]، وقال