الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القولُ الثالثُ: أنَّ الآيةَ عامَّةٌ في كلِّ صاحبِ مِلَّةٍ غيرِ الإِسلامِ ألَّا يزوِّجَهُ المسلِمونَ رجلًا أو امرأةً، ولم يُنسَخْ شيءٌ منها، وعلى هذا فهي محرِّمةٌ حتى للكتابيَّاتِ.
حكمُ وطءِ الإماءِ غير الكتابيَّاتِ:
وعامَّةُ العلماءِ على تحريمِ نكاحِ غيرِ الكتابيَّاتِ مهما كانت مِلَّتُها.
وروى ابن جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ وعمرِو بنِ دينارٍ: حِلَّ إماءِ المَجُوسِ.
ويَحتَجُّ مَن يقولُ بِحِلِّهِنَّ بسَبْيِ أَوْطَاسٍ، وكانوا مجوسًا.
وهذا فيه نظرٌ؛ فما كلُّ مَسْبيَّةٍ تُوطَأُ، وما كلُّ مَسْبِيَّةٍ تَبْقَى على مِلَّتِها، والنصوصُ غيرُ صريحةٍ في هذا، وكان ابنُ شِهَابٍ - وهو مِن أَبْصَرِ الناسِ بالسِّيَرِ - يَنْهَى عن نكاحِ المَجُوسِيَّةِ.
وكان السلفُ لا يَطَؤُونَ المَسْبِيَّةَ حتى تُسلِمَ ويُعلِّموها الإسلامَ ويستنطِقُوها الشهادتَيْنِ؛ كما رَوَى يونُسُ، عن الحسنِ؛ قال:"قال رجلٌ له: يا أبا سعيدٍ، كيف كنتُمْ تَصْنَعونَ إذا سَبَيْتُمُوهُنَّ؟ قال: كنَّا نُوجِّهُها إلى القِبْلةِ ونأمُرُها أنْ تُسلِمَ، وتشهَدَ أنْ لا الهَ إلا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، ثمَّ نأمُرُها أنْ تغتسِلَ، وإذا أرادَ صاحِبُها أنْ يُصِيبَها لم يُصِبْها حتى يَسْتَبْرِئَها"(1).
الزواجُ من الكتابيَّة:
ويَحِلُّ نكاحُ الكتابيَّاتِ عندَ عامَّةِ علماءِ السلفِ، وعليه إجماعُ الخَلَفِ، ولا يثبُتُ القولُ بالتحريمِ عن أحدٍ مِن الصحابةِ إلا عن ابنِ عمرَ، وأمَّا في التابِعِينَ، فلأفرادٍ منهم، وهجَرَ قولَهُمْ أصحابُهُمْ، وأمَّا كراهةُ نكاحِ الكتابيَّةِ وعدمُ استحسانِهِ لا تحريمُهُ، فلِقِلَّةٍ مِن السلفِ، وقد جاء
(1)"الاستذكار" لابن عبد البر (16/ 269).
عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ النهيُ عن نكاحِ الكتابيَّاتِ؛ ففي "البخاريِّ"، عنه:"لا أعلَمُ مِنَ الإشراكِ شيئًا أكبرَ مِن أنْ تقولَ المرأةُ: رَبُّهَا عيسى"(1).
وقد يَجْرِي قولُ ابنِ عمرَ هذا على مَنْ يُظهِرُ تألِيهَ عيسى لدى النصارى؛ وهذا غالبٌ فيهم معروفٌ؛ وهو كُفْرٌ وشِرْكٌ، ولكن مَن يقولُ مِنَ اليهودِ بأنَّ عُزَيْرًا ابنُ اللهِ أتباعُ فِنْحَاصَ؛ وهم قلةٌ مِن اليهودِ.
ورُوِيَ عن عمرَ بنِ الخطَّابِ: منعُ الزواجِ مِن الكتابيَّاتِ مِن وجهٍ فيه نظرٌ، رواهُ شَهْرُ بنُ حَوْشَبٍ؛ قال: سَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ يقولُ: نَهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن أصنافِ النِّسَاءِ، إلا ما كان مِن المؤمِناتِ المهاجِراتِ، وحَرَّمَ كلَّ ذاتِ دِينٍ غيرِ الإِسلامِ، وقال اللهُ - تعالى ذِكْرُهُ -:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] ، وقد نَكَحَ طَلْحةُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ يهوديَّةً، ونكَحَ حُذَيْفةُ بنُ اليَمَانِ نصْرانيَّةً، فغَضِبَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه غضبًا شديدًا، حتى همَّ بأنْ يَسْطُوَ عليهما، فقالا: نحن نُطلِّقُ يا أميرَ المؤمنِينَ، ولا تغضب! فقال: لَئِنْ حَلَّ طلاقُهُنَّ لقد حَلَّ نكاحُهُنَّ، ولكنْ أَنْتَزِعُهُنَّ منكم صَغَرَةً قِمَاءً.
أخرَجَهُ الطبرانيُّ في "معجمِه"، وابنُ جريرٍ الطبريُّ في "تفسيرِه"، وروى الترمذيُّ المرفوعَ منه (2).
ولا يصحُّ؛ شَهْرٌ في حفظِه ضعفٌ.
وهو مخالِفٌ للثابتِ عن عُمَرَ في صحةِ زواجِ المسلِمِ مِن كتابيَّةِ؛ فعن زيدِ بنِ وهبٍ؛ قال: قال عمرُ: "المسلِمُ يتزوَّجُ النصرانيَّةَ، ولا يتزوَّجُ النصرانيُّ المسلِمةَ".
(1) أخرجه البخاري (5285)(7/ 48).
(2)
أخرجه الترمذي (3215)(5/ 355) والطبري (3/ 715)، والطبراني في "المعجم الكبير"(13013)(12/ 248).
وروى الصَّلْتُ بنُ بَهْرَامَ، عن شقيقٍ؛ قال: تزوَّجَ حُذَيْفةُ يهوديَّةً، فكتَبَ إليه عمرُ:"خَلِّ سَبِيلَها"، فكتَبَ إليه "أتزعُمُ أنَّها حرامٌ فأُخْلِيَ سبيلَها؟ "، فقال:"لا أزعُمُ أنَّها حَرَامٌ، ولكنْ أخافُ أنْ تَعَاطَوُا المُومِسَاتِ مِنْهُنَّ"(1).
وقد قال بِجَوَازِ زواجِ المسلِمِ مِن كتابيَّةٍ عامَّةُ السلفِ والخلفِ، وهو قولُ الأئمَّةِ الأربعةِ، وقولُ الثوريِّ والأوزاعيِّ.
ورُوِيَ عن قلةٍ مِن فقهاءِ السلفِ: المنعُ مِن زواجِ المسلِمِ مِن كتابيَّةٍ، فقد روى مَعْمَرٌ، عن قَتَادةَ والزُّهْريِّ؛ في قولِهِ:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} ، قال:"لا يَحِلُّ لك أنْ تُنْكِحَ يهوديًّا أو نصرانيًّا ولا مشرِكًا مِن غيرِ أهلِ دِيِنِك"(2).
وروى ابنُ حَبِيبٍ، عن مالكٍ: كراهةَ الزواجِ مِن الكتابيَّةِ.
ولا يَقصِدُ مالكٌ التحريمَ؛ لظهورِ الآيةِ بالجوازِ وعملِ أهلِ المدينةِ، وربَّما كَرِهَهُ لقولِ ابنِ عمرَ ولكراهةِ عمرَ بنِ الخطابِ له، ولم يقصِدْ تحريمَهُ، فعِلَّتُهُ في ذلك كعلةِ عمرَ بالنهيِ عنه، ومالكٌ إنْ صحَّ الخبرُ عن عمرَ، لم يقدِّمْ عليه قولَ ابنِ عمرَ.
وروى الحسَنُ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ؛ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أَهْلِ الكِتَابِ، وَلَا يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا)(3).
وقولُ اللَّهِ تعالى: {حَتَّى يُؤْمِنَّ} : دليلٌ على أنَّ النَّهْيَ لأجلِ الشركِ، وهو غايةُ النهي وعِلَّتُهُ، فإذا آمَنَّ، جازَ النكاحُ، وإذا لم يَصِحَّ زواج المسلِمةِ مِن كافرٍ ابتداءً، فلا يجوزُ البقاءُ عندَ مَن كفَرَ بعد إسلامِهِ بالاتِّفاقِ.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 716).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 719)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 399).
(3)
"تفسير الطبري"(3/ 716).