الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أنه لو سلمنا جدلاً ارتقاء الحديث إلى الصحة بلفظ: " لا يقطع الصلاة شيء "؛ فلا يكون صريحا في معارضة أحاديث القطع؛ لأنه عام وتلك خاصة، فيبنى العام على الخاص، ويكون الناتج من ذلك (لا يقطع الصلاة شيء إذا كان بين يديه سترة)، وهذا جاء مصرحاً به في بعضها؛ كحديث أبي هريرة:
" يقطع الصلاة المرأةُ والكلبُ والحمارُ، ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل ".
رواه مسلم كما تقدم، ونحوه حديث أبي ذر.
وقد بحث الشوكاني في " النيل " هذا الموضوع بتفصيل، وناقش أدلة المختلفين في هذه المسألة، وبيَّن صحيحها من سقيمها، وانتهى كلامه إلى هذا الجمع، فليراجعه من أراد التفصيل؛ إلا أن موقفه من حديث الترجمة كان ضعيفا؛ لأنه بعدما ساقه من رواية الدراقطني لم يزد على قوله عقبه (3 / 12) :
" فإن صح كان صالحاً للاستدلال به على النسخ (يعني: لحديث القطع) إن صح تأخُّر تأريخه ".
فهذا وما تقدم نقله عن المعلق على " الزاد " كان من دواعي كتابة هذا التخريج والتحقيق. والله تعالى ولي التوفيق.
وإليك الآن تحقيق الكلام على الحديث الثالث من الأحاديث المشار إليها آنفاً:
5661
- (لا يَقْطَعُ الصَّلاةَ شيءٌ) .
منكر.
أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير (8 / 193 / 7688) ، والدارقطني في " السنن " (1 / 368) من طريق عفير بن معدان عن سليم بن عامر عن أبي أمامة مرفوعا.
قلت: وهذا إسناد ضعيف جداً؛ آفته عفير هذا؛ فقد اتفقوا على تضعيفه، وقد بسط الحافظ ابن المزي أقوال جارحيه في " تهذيب الكمال "، وهو ممن سقطت ترجمته من " تهذيب التهذيب " للعسقلاني، وأورده الذهبي في " الضعفاء " وقال:
" ضعفوه. وقال أبو حاتم: لا يشتغل بحديثه ".
قلت: ونص قول أبي حاتم في رواية ابنه عنه في " الجرح "(3 / 2 / 36) :
" ضعيف الحديث، يكثر الرواية عن سليم بن عامر عن أبي أمامة بالمناكير مما لا أصل له، لا يشتغل بروايته ".
قلت: فمثله لا يصلح للاستشهاد به؛ خلافا لما فعله المعلق على " زاد المعاد " كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الحديث الذي قبله، وكذلك فعل في تعليقه على " شرح السنة "(2 / 461 - 462) ! ولم يكتف بذلك؛ بل إنه نقل عن الهيثمي في " المجمع "(2 / 62) أنه حسّن إسناده وأقره! وأغلب الظن أنه لا يخفى عليه أن ذلك من أوهام الهيثمي أو تساهله. فلم أقره؟ ! الجواب في قلب كل قارئ لبيب.
وهذا هو الحديث الثالث مما كان المعلق المشار إليه ذكره كشاهد لحديث الترجمة من رواية أبي سعيد الخدري الذي سبق بيان إسناده ونكارة متنه أيضاً في الذي قبله.
وأما الحديث الرابع الذي استشهد به؛ فهو حديث الدارقطني عن أنس مرفوعاً مثل حديث الترجمة:
وسكت المومى إليه أيضاً، فلم يتكلم عليه بشيء أيضاً؛ مكتفيا بادِّعاء كونه شاهداَ. ولا يصلح لذلك؛ لضعف في إسناده ونكارة في متنه، وإليك البيان:
أخرجه الدارقطني (1 / 367)، والبيهقي (2 / 177 - 178) والحافظ ابن المظفر في " زياداته على مسند عمر بن عبد العزيز " لابن الباغندي (ص 17) من طريق إبراهيم بن منقذ الخولاني: نا إدريس بن يحي أبي عمرو المعروف بـ (الخولاني) عن بكر بن مضر عن صخر بن عبد الله بن حرملة: أنه سمع عمر ابن عبد العزيز يقول: عن أنس:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس، فمر بين أيديهم حمار، فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله (ثلاثاً)، فلما سلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من المسبّح آنفاً: سبحان الله؟ " قال أنا يا رسول الله! إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة. قال:
" لا يقطع الصلاة شيء ".
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات من رجال " التهذيب "؛ غير إدريس بن يحي هذا؛ قال ابن أبي حاتم (1 / 1 / 265) :
" صدوق، سئل عنه أبو زرعة؛ فقال: رجل صالح من أفاضل المسلمين ". قال يونس بن عبد الأعلى:
" ما رأيت في الصوفية عاقلا سواه ".
وصحح له الحاكم.
توفي سنة (211) ؛ كما قال الذهبي في " الأعلام "(10 / 166) . وذكر
أنه كان أحد الأبدال، كان يشبه ببشر الحافي في فضله وتَأَلُّهِهِ.
وغفل عن هذا الشيخ أحمد شاكر، فقال في تعليقه على الترمذي (2 / 165) :
" ولم أجد ترجمة لإدريس هذا "!
ولعله أراد الراوي عنه: إبراهيم بن منقذ، فسبقه القلم؛ فإن إبراهيم هذا عزيز الترجمة؛ فقد ذكره الذهبي في " العبر "، وتبعه ابن العماد في " الشذرات " في وفيات سنة (269) ؛ قالا:
" وفيها توفي إبراهيم بن منقذ الخولاني المصري صاحب ابن وهب، وكان ثقة ".
وهذا خلاصة ترجمته في " سير أعلام النبلاء "(12 / 503) ، ووصفه فيه بـ " الإمام الحجة الخولاني أبو إسحاق، مولاهم المصري العصفري ".
وذكر أنه روى عنه جماعة من الحفاظ وغيرهم، قال أبو سعيد بن يونس:
" هو ثقة رضي ".
فالظاهر أنه في كتابه " تاريخ مصر "، ولم يطبع فيما علمت؛ فهو - والله أعلم - عمدة الذهبي في توثيقه، وذكر السمعاني في " الأنساب "، مادة (العصفري) :
" كانت كتبه احترقت قديما، وبقيت له منها بقية، وكان يحدث بما بقي له من كتبه ".
قلت: وبالجملة؛ فرجال هذا الإسناد ثقات كما تقدم؛ ولكن متن الحديث منكر؛ لما سبق بيانه، وفي هذه الحالة لا بد للباحث أن يربط علته بأحد رجاله، فأرى - والله أعلم - أن أولاهم بها إنما هو صخر بن عبد الله بن حرملة؛ فإنه وإن وثقه
ابن حبان (6 / 473) ، والعجلي (227 / 294)، وقال النسائي:
" صالح " كما في " تهذيب التهذيب " لابن حجر، وكأنه وقف عند هذا التوثيق حين قال في كتابه " الدراية " (1 / 178) :
" وإسناده حسن "!
وتبعه في ذلك الشيخ الفاضل بديع الدين الراشدي في تعليقه على " مسند عمر بن عبد العزيز "(ص 16) ، وقلده المعلق الحلبي على المسند (ص 55) ، ولم ينتبهوا جميعا إلى أن التوثيق المذكور مما لا يقبل، وبخاصة عند تعارض الأحاديث؛ فإنه صادر ممن عرف بتساهله في التوثيق في راوٍ ليس مشهورا بالرواية، ولذلك؛ سكت عنه البخاري في " التاريخ الكبير "، وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "، وقال الذهبي في " الميزان ":
" قليل الحديث، لا يكاد يعرف، قال ابن القطان: مجهول الحال لا يعرف، ما روى عنه غير بكر بن مضر ". ولهذا؛ قال في " الكاشف ":
" وثق "!
وهذا التعبير منه يعني أن توثيق من ذكرنا غير موثوق به؛ كما يعرف ذلك من له ممارسة بتعابير الذهبي ودقته فيها. وكذلك قول الحافظ ابن حجر فيه في " التقريب ":
" مقبول ". يعني: أن التوثيق المشار إليه غير مقبول عنده، وإلا؛ لقال فيه هو والذهبي:" ثقة ". أو نحو ذلك من العبارات التي تؤدي معناه، ويؤكد ذلك بالنسبة للحافظ أنه صرح في مقدمته بمقصوده بقوله:" مقبول "؛ فقال: " حيث
يتابع، وإلا فليِّن الحديث ".
وفي نقل تلميذه الحافظ الناجي عنه: " إن لم يتابع؛ فليِّن الحديث ".
فلما لم يكن لصخر هذا متابع، فحديثه - والحالة هذه - لين عند الحافظ، وهو الذي يتفق مع تضعيفه إياه في " الفتح " كما تقدم، وعبارته صريحة في ذلك.
وأما قول ذاك الحلبي: إنها توهم تضعيفه له؛ فمن تحريف كلام العلماء؛ إتباعاً لهواه؛ فإن عبارته بعد أن ذكر أن حديث الترجمة ورد عن جمع من الصحابة سماهم - منهم أنس - قال:
" وفي إسناد كل منها ضعف ".
فأين التوهيم المزعوم؟ !
ومن تهوُّر هذا الزاعم وجرأته على العلماء قوله (ص 55) - بعد أن نقل ما سبق من التوثيق عن ابن حبان وغيره -:
" ولم ينقل فيه غير ذلك، فهو ثقة، وليس كما قال في " التقريب ": مقبول "!
كأن الحافظ لا علم عنده بالتوثيق المذكور، وهو إنما نقله عنه! ولكن من جهل هذا الزاعم وتهوره أنه لم يفكر على الأقل لماذا لم يأخذ بالتوثيق المذكور وهو العليم به؛ ولو فكر لتبين له السبب، وهو جهالة الموثِّق هذا، وتساهل الموثِّقين له، وقد سبقه إلى ذلك ابن القطان والذهبي كما سبق؛ فإن من المعروف في " المصطلح ": أن الراوي إذا روى عنه واحد؛ فهو مجهول جهالة عينية، ومن روى عنه اثنان فأكثر فهو مجهول الحال.
فلما لم يرو عن صخر غير بكر، ولم يوثق بتوثيق معتبر؛ لزم الحفاظ المتأخرون - ابن القطان والذهبي والعسقلاني - المعروفَ في المصطلح، ولما
جهل ذلك المغرور المشار إليه؛ خطَّأهم جميعًا في شخص الحافظ العسقلاني! !
ولقد جهل أمرين آخرين:
الأول: مخالفة هذا الحديث للأحاديث الصحيحة عن أبي ذر وغيره؛ كما تقدم بيانه في الحديث الذي قبله؛ ففيها إثبات القطع.
والآخر: أنه صح عن أنس نفسه ما يوافق تلك الأحاديث الصحيحة، ويخالف ما نسبه صخر إليه، وهو ما روى شعبة عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس أن النبي ? قال:
((يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة)) .
أخرجه البزار في ((مسنده)) (1 / 281 / 582 - كشف الأستار) : حدثنا يحيى بن محمد بن السكن: ثنا يحيى بن كثير: ثنا شعبة به.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ غير ابن السكن، وهو من شيوخ البخاري في ((صحيحه)) . ولهذا قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2 / 60) :
((رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح)) .
وأقره الحافظ في ((زوائده)) (ص 54 - مصورة الهند) .
ولعله مما يزيد القارئ بصيرة بضعف هذه القصة التي تفرد بها صخر: معرفة أنه اضطرب في إسناده.
فمرة قال: إنه سمع عمر بن عبد العزيز عن أنس، كما تقدم.
ومرة قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يحدث عن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال:. . . فذكره.
أخرجه ابن الباغندي في ((مسند عمر بن عبد العزيز)) (17 / 9) : حدثنا هشام بن خالد: نا الوليد بن مسلم عن بكر بن مضر المصري عن صخر بن عبد الله المدلجي قال:. . . فذكره.
قلت: وهذا منقطع أو مرسل؛ لأن عمر بن عبد العزيز لم يدرك عياش بن أبي ربيعة؛ فإنه قديم الوفاة مات سنة (15) .
وهذا يقال إن سلم من عنعنة الوليد بن مسلم؛ فإنه كان يدلس تدليس التسوية.
إذا عرفت هذا؛ فقد أخطأ في هذا الحديث عالمان فاضلان لهما وزنهما عندي، وهما: الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، والشيخ بديع الدين الراشدي.
أما الأول؛ فمن ناحيتين:
الأولى: من حيث إسناده، فإنه قال عقب كل رواية الوليد بن مسلم:
((وهذا إسناد صحيح، إلا أن عمر بن عبد العزيز لم يسمع من عياش، فقد مات سنة 15، ولكنه محمول على الرواية الأخرى عن أنس، وكأن عمر لما سمعه من أنس صار يرويه مرة عنه، ومرة يرسله عن عياش، يريد بذلك رواية القصة، لا ذكر الإسناد)) .
قلت: هذا الحمل مسلَّم لو صح الإسناد عن عمر بهذا وهذا، وهيهات! فإن مدارهما على صخر، وقد عرفت حاله.
والعجب من الشيخ كيف يصحح هذه الرواية، وهو يعلم أن الوليد بن مسلم مدلس، ويقول في أحد رواة الرواية الأولى عن أنس:((لم أجد له ترجمة)) ! كما سبق نقله عنه مع الاستدراك عليه فيه، فتذكر هذا، وأن العلة الحقيقة هي من صخر!
ثم إذا كان الشيخ يحمل هذه الرواية على الرواية الأولى - وهي عن أنس -؛ فكيف يجوز نسبة ذلك إليه بمثل هذا السند المعلل بصخر، وقد صح عنه خلافه بسند قوي كالجبل؛ كما سبق.
والناحية الأخرى: أنه جزم بنسخ أحاديث قطع الصلاة التي تقدم بعضها ببيان ذكره متبجحًا به! وحق له ذلك لو صح؛ ولكننا نقول: أثبت العرش ثم انقش! ! أو: وهل يستقيم الظل والعود أعوج؟ ! فإن ذلك البيان بناه على صحة الحديث، وهيهات هيهات! فقد تبين أنه ضعيف الإسناد منكر المتن؛ لمخالفته للأحاديث الصحيحة في القطع بصورة عامة، ولحديث أنس الصحيح فيه بصورة خاصة.
وأما الشيخ الراشدي حفظه الله؛ فقد وافقه على الناحية الأولى؛ إلا أنه اقتصر على تحسين إسناد الحديث إلى أنس، وعلى الناحية الأخرى أيضًا تلميحًا لا تصريحًا؛ لكنه جاء بعجيبة؛ فإنه بعد أن صرح بضعف حديث الوليد - لتدليسه - قال في آخر تعليقه عليه:
((فهذا الحديث من جملة الشواهد في الباب)) !
يقول هذا وهو يرى أن مداره على راو واحد، هو صخر بن عبد الله في هذا الحديث وفي الذي قبله، فقد جعل المشهود له شاهدًا، وبالعكس! إلا أن يريد