الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[108]- تقول: هو أحسن إنصافً وليس أنصف منه
ويقولون: فلان أنصف من فلان، إشارة إلي أ، هـ يفضل في النصفة عليه، فيحيلون المعنى فيه؛ لأن معنى هو أنصف منه، أي أقوم منه بالنصافة التي هي الخدمة، لكونه مصدر نصفت القوم أي خدمتهم، فأما إذا أريد به التفضيل في الإنصاف، فلا يقال إلا هو أسحن إنصافاً منه أو أكثر إنصافاً، وما أشبه ذلك، والعلة فيه أن الفعل من الإنصاف: أنصف. وأفعل الذي للتفضيل لا يبني إلا من الفعل الثلاثي لتنظيم حروفه فيه، إذا لو بني مما جاوز الثلاثي لاحتيج إلي حذف جزء منه، ولو فعل ذلك لاستحال البناء هدماً والزيادة المجتلبة له لما. فأما قول «حسان بن ثابت»:
(كلتاهما حلب العصير فعطاني
…
بزجاجة أرخاهما للمفصل)
فإنما قال أرخهما، والقياس أن يقال: أشدهما إرخاء، لأن أصل هذا الفعل رخو، فبناه منه، كما قالوا: ما أحوجه إلي كذا فبنوه من حوج، وإن كان قياسه أن يقال: ما أشد حاجته.
ــ
(ويقولون: فلان أنصف من فلان إشارة إلي أنه يفضل في النصفة عليه، فيحرفون القول ويحيلون المعنى فيه، لأن معنى هو أنصف منه بالنصافة التي هي الخدمة لكونها مصدر نصفت القوم أي خدمتهم، فإذا أريد التفضيل في الإنصاف فلا يقال إلا هو أحسن إنصافاً منه أو أكثر إنصافاً).
إنكاره لأنصف ليس من الإنصاف كما قال ابن بري)، والذي أداه إلي ارتكاب مثله ما اشتهر من أن «أفعل» لا يصاغ إلا من الثلاثي، لكن إذا جاء النص هرب القياس، وقد ورد سماعه كما ورد: هو أيسر منه، وأمثاله.
وحكى «أبو القاسم الزجاجي» أن «حسان بن ثابت» -رضي الله تعالى عنه- لما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
حكاية أدبية
ولهذا البيت حكاية يحسن أن نعقب بروايتها، ويضوع نشره بنشر ملحتها، وهي ما رواه «أبو بكر محمد بن أبي القاسم الأنباري» عن أبيه، قال: حدثنا «الحسن بن عبد الرحمن الربعي» قال: حدثنا «أحمد بن عبد الملك بن أبي الشمال السعدي» قال: حدثنا «أبو ظبيان الحماني» قال: اجتمع قوم على شراب لهم فغناهم مغنيهم بشعر «حسان» :
(إن التي ناولتني فرددتها
…
قتلت. قتلت. فهأتهأ لم تقتل)
(كلتاهما حلب العصير فعاطني
…
بزجاجة أرخاهما للمفصل)
فقال بعضهم: امرأته طالق إن لم أسأل الليلة «عبيد الله بن الحسن القاضي»
عن علة هذا الشعر- لم قال: إن التي فوحد ثم قال: كلتاهما فثنى؟
ــ
(أتهجوه ولست له بكف
…
فشركما لخير كما الفداء)
قالت الصحابة: يا رسول الله، هذا أنصف بيت قالته العرب، فتكلموا بأنصف، وعليه أيضا قول الشاعر:
(وأنصف الناس في كل المواطن من
…
يسقي المعادين بالكأس الذي شربا)
ومما اتفق هنا أنهم قالوا: يتوصل إلى تفضيل المزيد بلفظ أشد مع أن أشد أيضا مخالف للقياس، لكنه لما سمع اتخذوه سلما لما خالف القياس.
فأشفقوا على صاحبهم، وتركوا ما كانوا عليه، ومضوا يتخطون القبائل حتى انتهوا إلى «بني شفرة» و «عبيد الله بن الحسن» يصلي عندهم، فلما فرغ من صلاته قالوا: قد جئناك في أمر دعتنا إليه ضرورة وشرحوا له خبرهم، وسألوه الجواب، فقال: إن التي ناولتني فرددتها، عنى بها الخمر الممزوجة بالماء، ثم قال من بعد: كلتاهما حلب العصير، يريد الخمر المتحلبة من العنب والماء المتحلب من السحاب المكنى عنه «بالمعصرات» في قوله تعالى:{وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا} .
قال الشيخ الأوحد العالم الرئيس «أبو محمد» هذا ما فسره «عبيد الله بن الحسن القاضي» ، وكان ممن يرمق بالمهابة ولا يسمح بالدعابة.
وقد بقي في الشعر ما يحتاج إلى كشف سره وتبيان نكته. أما قوله: «إن التي ناولتني فرددتها قتلت. قتلت» فإنه خاطب به الساقي، الذي كان ناوله كأسا
ــ
فأما قول «حسان بن ثابت» :
(كلتاهما حلب العصير فعاطني
…
بزجاجة أرخاهما للمفصل)
هو من قصيدة مدح بها «آل جفنة» ملوك الشام قبل الإسلام، وأكثر مدائحه فيهم، وأولها:
(أسألت رسم الدار أم لم تسأل
…
بين الجوابي فالنصيح فحومل)
ومنها:
(لله در عصابة نادمتهم
…
يوما «بجلق» في الزمان الأول)
(أولاد جفنة حول قبر أبيهم
…
قبر «ابن مارية» الجواد المفضل)
(يسقون من ورد البريض عليهم
…
بردي يصفق بالرحيق السلسل)
(يسقون درياق المدام ولم يكن
…
يغدو ولائدهم بنقف الحنظل)
(بيض الوجوه كريمة أحسابهم
…
شم الأنوف من الطراز الأول)
(يغشون حتى ما نهر كلابهم
…
لا يسألون عن السواد المقبل)
ممزوجة، لأنه يقال: قتلت الخمر إذا مزجتها، فكأنه أراد أن يعلمه أنه قد فطن لما فعله، ثم ما اقتنع بذلك حتى دعا عليه بالقتل في مقابلة المزج، وقد أحسن كل الإحسان في تجنيس اللفظ أنه أعقب الدعاء عليه بأن استعطى منه ما لم يقتل، يعني الصرف التي لم تمزج.
وقوله: أرخاهما للمفضل، يعني به اللسان، وسمي مفصلا بكسر الميم، لأنه يفصل بين الحق والباطل، وليس ما اعتمده «عبيد الله بن الحسن» من الإسماح وخفض الجناح مما يقدح في نزاهته أو يغض من نبله ونباهته.
ــ
(فلبثت أزمانا طوالا فيهم
…
ثم اذكرت كأنني لم أفعل)
(أو ما ترى رأسي تغير لونه
…
شمطا فأصبح كالثغام الممحل)
(ولقد شربت الخمر في حانوتها
…
صهباء صافية كطعم الفلفل)
(يسعى إلي بكأسها متنطق
…
فيعلني منها وإن لم أنهل)
(إن التي ناولتني فرددتها
…
قتلت- قتلت- فهاتها لم تقتل)
(كلتاهما حلب العصير فعاطني
…
بزجاجة أرخاهما للمفصل)
ثم إن قوله: إن التي ناولتني إلخ عنى بها الخمر الممزوجة بالماء، ثم قال: كلتاهما حلب العصير يريد الخمر المتحلبة من العنب والماء المتحلب من السماء المكنى عنه بالمعصرات في قوله تعالى: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا} . قال «أبو محمد» : هذا ما فسره «عبد الله بن الحسن القاضي» ، وقد بقي في الشعر ما يحتاج إلى كشف سره وتبيان نكته.
أما قوله: إن التي إلخ فإنه خاطب به الساقي الذي كان ناوله كأسا ممزوجة (لأنه يقال: قتلت الخمر إذا مزجتها) قال «الراغب» : أصل القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت، لكن إذا اعتبر بفعل المتولي لذلك يقال: قتل، وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال: موت، واستعير على سبيل المبالغة فقيل: قتلت الخمر بالماء إذا مزجته، ووجه الاستعارة فيه أنه يزيل شدتها وسورتها، فجعلت نشأتها كروحها، أو جعلت بسكرها عدوا يستحق أن يقتل كما قلت:
حكاية أخرى:
ويضارع هذه الحكاية في وطاءة القضاة المتقشفين للمستفتين وتلاينهم في مواطن اللين، ما حكي أن «حامد بن العباس» سأل «علي بن عيسى» في ديوان الوزارة عن دواء الخمار، وقد علق به، فأعرض عن كلامه وقال: ما أنا وهذه المسألة؟
فخجل «حامد» منه، ثم التفت إلى قاضي القضاة «أبي عمر» فسأله، فتنحنح القاضي لإصلاح صوته، ثم قال: قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «استعينوا في الصناعات بأهلها» و «الأعشى» هو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية، وقد قال:
(وكأس شربت على لذة
…
وأخرى تداويت منها بها)
ــ
(قلت للندمان لما
…
مزقوا برد الدياجي)
(قتلتنا الراح صرفا
…
فاقتلوها بالمزاج)
(فكأنه أراد أن يعلمه أنه قد فطن لما فعله، ثم ما اقتنع بذلك حتى دعا عليه بالقتل
ثم تلاه «أبو نواس» في الإسلام فقال:
(دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
…
وداوني بالتي كانت هي الداء)
فأسفر وجه «حامد» وقال «لعلي بن عيسى» : ما ضرك يا بارد أن تجيب ببعض ما أجاب به قاضي القضاة، وقد استظهر في جواب المسألة بقول الله تعالى أولا، ثم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ثانيا، وبين الفتيا وأدى المعنى، وتفصى من العهدة؟ .
فكان خجل «علي بن عيسى» من «حامد» بهذا الكلام أكثر من خجل «حامد» منه لما ابتدأه بالمسألة.
ــ
في مقابلة المزج، وقد أحسن كل الإحسان في تجنيس اللفظ، ثم إنه عقب الدعاء عليه بأن استعطى منه ما لم تقتل، يعني الصرف التي لم تمزج، وقوله: أرخاهما للمفصل يعني به اللسان، ويسمى مفصلا بكسر الميم، لأنه يفصل بين الحق والباطل).
فيما نقله خلل من وجوه، منها أن معنى أرخاهما أشدهما إرخاء لا رخاوة، فقوله: أصل هذا الفعل رخو لا يجدي نفعا، لأن كون أصله كذلك مع أنه غير مراد لا يصححه.
ومنها أن «ابن الشجري» قال في «أماليه» بعدما نقل هذا الكلام: إن فيه فساداً من رجوه ثلاثة:
الأول: أن «كلتاهما» حينئذ عبارة حد عن مؤنثين، والماء ليس بمؤنث وليس له اسم مؤنث، حتى يعتبر كما في قولهم: أتته كتابي أي صحيفتي، والتغليب إنما يكون للمذكر على المؤنث.
الثاني: أن أرخاهما اسم تفضيل فيقتضي أن يكون في الماء إرخاء للمفصل والخمر أزيد منه وهو باطل؛ إذ ليس فيه إرخاء أصلا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الثالث: أنه قال في الحكاية: فالحلب عصير العنب، وفي بيت «حسان» حلب العصير، فيلزم إضافة الشيء إلى نفسه.
وعندي أنه أراد: كلتا الخمرتين أو الكأسين: الصرف والممزوجة حلب العنب، فناولني أشدهما إرخاء للمفصل يعني الصرف، وقد أسلفنا لك ما في تغليب المؤنث على المذكر فتذكر.
وقوله: إن الماء لا إرخاء فيه فيه ما لا يخفى، والإضافة المذكورة من إضافة الأعم للأخص، وقال «ابن بري» تسمية ماء السحاب أو السحاب عصيراً ليس بمعروف، وهي معصرات من الإعصار وهو الإلجاء من المكروه، وقد روى المفصل هنا بفتح الميم وكسر الصاد على أنه واحد مفاصل الأعضاء.
وقوله:
(وكأس شربت على لذة
…
وأخرى تداويت منها بها)
هو من قصيدة «للأعشى» وبعده:
(كي يعلم الناس أني امرؤ
…
أتيت اللذاذة من بابها)
وقوله:
(دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
…
وداوني بالتي كانت هي الداء)
مطلع قصيدة «لأبي نواس» مشهورة، ومنها:
(صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
…
لو مسها حجر مسته سراء)
ومن العجب هنا ما في «الحواشي الحسنية» للمطول من أنه لما ذكر هذا البيت قال: هو في وصف الذهب، وقيل: هي الخمر.