الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[64]- قولهم: ما رأيته من أمس ومنذ أمس
ويقولون ما رأيته من أمس، والصواب أن يقال مذ أمس ومنذ أمس. لأن من تختص بالمكان ومذ ومنذ يختصان بالزمان، وأما قوله عز وجل: » إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة «فإن "من" ها هنا بمعنى "في" الدالة على الظرفية بدليل أن النداء للصلاة المشار إليها يوقع وسط يوم الجمعة، ولو كانت "من" ها هنا هي التي تختص بابتداء الغاية لكان مقتضى الكلام أن يوقع النداء في أول يوم الجمعة. وأما قوله: » لمسجد أسس على التقوى من أول يوم «فهو على إضمار
ــ
(ويقولون: ما رأيته من أمس، والصواب أن يقال: منذ أمس أو مذ أمس؛ لأن من يختص بالمكان ومذ ومنذ يختصان بالزمان). هذا هو المشهور من مذهب البصريين. وأهل الكوفة يخالفونهم فيه. ومن البصريين من ذهب إلى أن [من] يكون لابتداء الغاية في الزمان والمكان والأحداث والأشخاص. تقول: أخذت من زيد وسرت من البصرة ورأيته من غدوة قال تعالى: » ومن آناء [الليل] فسبح «» ومن الليل فتهجد به «.
وقال "الحصين":
(من الصبح حتى تغرب الشمس لا ترى
…
من القوم إلا خارجيا مسمومًا)
مصدر حذف لدلالة الكلام عليه. وتقديره: من تأسيس أول يوم، وعلى هذا قول "زهير":
(لمن الديار بقنة الحجر
…
أقوين من حجج ومن دهر)
أي من مر حجج ومن [مر] دهر. وقيل: إن من في هذا البيت زائدة على ما يراه "الاخفش" من زيادتها في الكلام الواجب فكأنه قال: "أقوين حججا ودهرًا". وأما قولهم: ما رأيته مذ خلق ومذ كان ففي الكلام حذف تقديره: مذ يوم خلق ومذ يوم كان.
ــ
وقال آخر:
(من غدوة حتى كأن الشمسا
…
بالأفق الغربي تكسي الورسا)
وقد أولوه بما هو خلاف الظاهر، وألحق أحق أن يتبع، فأما قوله تعالى: » لمسجد أسس على التقوي من أول يوم «فهو على أضمار مصدر حذف لدلالة الكلام عليه وتقديره من تأسيس أول يوم كذا، أوله البصريون. وقال "أبو البقاء": إنه ضعيف لأن التأسيس المقدر ليس بمكان حتى تكون من هنا لابتداء الغاية ويدل على جوازه قوله تعالى: » لله الأمر من قبل ومن بعد «ورده في "الدر المصون" بأنهم إنما فروا من كون من لابتداء الغاية في الزمان وليس في كلامهم ما يدل على أنها لا تكون لابتداء الغاية إلا في المكان حتى رد عليه ما ذكر.
قلت: فعلى هذا ظهر تعبير المصنف بالتخصيص من القصور كما سيأتي، وقول "ابن عطية": الأحسن الاستغناء عن التقدير وأن من أول بمعنى من مبدأ الأيام لا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حاصل له، وقال "نجم الأئمة": لا أدري معنى الابتداء في قوله تعالى» من أول يوم «إذ المقصود من معنى الابتداء أن يكون الفعل المتعدي بمن الابتدائية شيئًا ممتدًا كالسير والمشي، ويكون المجرور هو الشيء الذي ابتدأ من ذلك الفعل، نحو سرت من البصرة، أو يكون الفعل المتعدي بها أصلا للشيء الممتد، نحو تبرأت من فلان إلى فلان، وكذا خرجت من الدار لأن الخروج ليس شيئًا ممتدًا؛ إذ يقال: خرجت من الدار إذا انفصلت عنها ولو بأقل من خطوة، وليس التأسيس حدثًا ممتدًا ولا أصلاً للمعنى الممتد، بل هو حدث واقع فيما بعده، وهذا معنى في. فمن في الآية بمعنى في وهو كثير، وفي "المبسوطات" هنا كلام طويل بغير طائل، وتحقيقه أنه لما أرادوا بما ذكروه هنا أن من الابتدائية لا تدخل إلا على المكان، ومذ ومنذ لا تدخل إلا على الزمان كما فهمه "أبو البقاء" وهو ظاهر كلام المصنف وبعض النحاة. فما ذكروه من التأويلات لا يلاقيه.
وإن أرادوا أن من لا تدخل على الزمان وإن دخلت على غيره من الأحداث والأشخاص، ومذ ومنذ لا تدخل على المكان كذلك فلا سؤال يحتاج للجواب. والظاهر أن هذا هو المراد كما في "الدر المصون". وما ذكره "الرضي" من أن الابتداء يقتضي أمرًا ممتدًا أو مبدأ له كلام حسن، لكن ما بناه عليه من أن التأسيس ليس كذلك لا وجه له، فإن التأسيس وهو وضع الأساس ممتد ومبدأ الأمر ممتد يقع في المؤسس كالعبارة هنا.
وقوله: ما رأيته مذ خلق ومذ كان ظاهره أن مذ هنا حرفية جارة، وليس كذلك لأنها حينئذ تكون مضافة إلى الجمل كما في "المغني" وغيره. وعلى هذا قول
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
"زهير"[في قصيدة له يمدح بها "هرم بن سنان" وهي]:
(لمن الدياء بقنة الحجر
…
أفوين مذ حجج ومذ شهر)
(لعب الزمان بها وغيرها
…
بعدي سوافي المور والقطر)
(فقر بمندفع النجائب من
…
ضفوى أولات الضال والسدر)
(دع ذا وعد القول في هرم
…
خير البداة وسيد الحضر)
(تالله قد علمت سراة بني
…
ذبيان عام الجيش والأسر)
(أثني عليك بما علمت وما
…
أسلفت في النجدات والذكر)
(لو كنت من شيء سوى بشر
…
كنت المنور ليلة القدر)
وهي طويلة. والقنة بضم القاف وتشديد النون أعلى الجبل، والحجر بكسر الحاء وسكون الجيم يليها راء مهملة ويجوز فتح أوله.
قال "ابن السيد": إنه المروي هنا، وأقوين صرن قواء أي خالية غير معمورة، والحجج بكسر الحاء جمع حجة وهي السنة، وقوله: لمن بكسر اللام الجارة لمن الاستفهامية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وهذا الاستفهام مشهور في أشعار الجاهلية، وهو تعجب من شدة خرابها حتى كأنها لا تعرف ولا يعرف أصحابها وسكانها. والعجب أن هذا مع ظهوره خفي على بعض المصنفين فظنها من الجارة، وقال إن في الأبيات شاهدًا لدخول من الجارة على المكان وهو غريب في خلله.