الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[25] في التعجب من الألوان والعاهات
ويقولون في التعجب من الألوان والعاهات: ما أبيض هذا الثوب وما أعور هذا الفرس! ، كما يقولون في الترجيح بين اللونين والعوين: زيد أبيض من عمرو، وهذا أعور من ذاك. وكل ذلك لحنٌ مجمعٌ عليه وغلطٌ مقطوع به، لأن العرب لم تبن فعل التعجب إلا من الفعل الثلاثي الذي خصته بذلك لخفته، والغالب على أفعال الألوان والعيوب التي يدركها العيان أن تتجاوز الثلاثي، نحو أبيض واسودَّ واعورَّ واحولَّ، ولهذا لم يجز أن ينبنى منها فعل التعجل من فعل ثلاثي يطابق من المدح والذم، ثم أتى بما يريد أن يتعجب منه كقولهم: ما أحسن بياض هذا الثوب وما أقبح عور هذا الفرس!
وحكم أفعل الذي للتفضيل حكم فعل التعجب في ما يجوز فيه ويمتنع منه فكما لا يقال: ما أبيض هذا الثوب ولا ما أعور هذا الفرس لا يجوز أن يقال أيضاً:
ــ
(ويقولون في التعجب من الألوان والعاهات: ما أبيض هذا الثوب وما أعور هذا الفرس .. ).
هذا مما اختلفوا فيه، فأجاز الكوفيون التعجب من البياض والسواد لأنهما أصول الألوان، كما ورد في حديث الحوض الذي قال أهل الحديث: إنه متواتر، ماؤه أبيض من الورق بكسر الراء وهو الفضة، وفي بعض شروحه: إنه لغة قليلة وأنشدوا عليه:
(إذا الرجال شتوا واستد أكلهم
…
فأنت أبيضهم سربال طباخ)
وقوله:
(جارية في درعها الفضفاض
…
أبيض من أخت بني بياض)
فلما جاء منهما أفعل التفضيل جاز بناء صيغتي التعجب منه لاستوائهما في أكثر
هذه أبيض من تلك ولا هذا أعور من ذلك، وأما قوله تعالى:{ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً} (الإسراء: 72) فهو ها هنا من عمى القلب الذي تترك الضلالة منه، لا بد من عمى البصر الذي تحجب المرئيات عنه وقد صدع بتبيان هذا العمى قوله تعالى:{فإنها لا تعمي الأبصار ولمن تعمي القلوب التي في الصدور} [الحج: 46].
وقد عيب على "أبي الطيب قوله في صفة الشيب:
ــ
الأحكام. فقول المصنف أنه لحن مجمع عليه ليس بصحيح، وقد توزعوا في الدليل فإنه مع إنه ليس بمقيس فأبيض في الأول محتمل للوصفية. وفي الثاني محتمل لأن يكون من البيض، وهو كناية عن أن أولادها لغير رشدهم كالبيض الذي لا يدرى مم حصل كما في "كشف المشكل".
(والغالب على أفعال الألوان والعيوب التي يدركها العيان أن نتجاوز الثلاثي نحو ابيض واحول). وهذا ليس بمرضي لتوجيه ما ادعاه، وإنما المرض عندهم أن الوصف منه جاء على زنة أفعل، فلو صيغ منه اسم تفضيل التبس في بعض الأحوال.
(فأما قوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى} [الإسراء: 72] الآية. فهو ههنا من عمى القلب الذي تتولد الضلالة منه لا من عمى البصر).
(أبعد بعدت بياضا لا بياض له
…
لأنت أسود في عيني من الظلم)
ومن تأول له فيه جعل أسود ها هنا من قبيل الوصف المحض الذي تأنيثه سوداء، أو أخرجه عن حيز أفعل الذي للتفضيل والترجيح بين الأشياء، ويكون على هذا التأويل قد تم الكلام وكملت الحجة في قوله:"لأنت أسود في عيني"، وتكون "من" التي في قوله:"من الظلم" لتبين جنس السواد لا أنها صلة أسود ومعنى قوله: "بياضا لا بياض له" أي ما له نور ولا عليه طلاوة
ــ
جواب عن سؤال يرد على ما قالوه من أنه لا يبنى من الألوان ولا من العيوب المحسوسة بالبصر. كما في "الحواشي" لا وجه لقوله من عمى القلب؛ لأن الفعل - وإن كان ثلاثيا منهما - إلا أنه يقال: عمي وعمه قلبه، والأول للبصر وهو في القلب استعارة.
وقد قال "أبو عبيدة" - في قوله تعالى: {فهو في الآخرة أعمى} [الإسراء: 72]: معناه أشد عمى، لأنه كقوله: وأضل سبيلا.
قلت: هو على ما فيه من الخلل غير مسلم؛ فإنه سمع عمى قلبه من العرب. وفي "تهذيب الأزهري" العمه: التحير، وقال بعضهم: العمه في الرأي والعمي في البصر. قلت: ويكون العمى في القلب، فيقال: رجل عم إذا كان لا يبصر بقلبه. اهـ.
فإذا سمع قديما وكان غير مرئي بحاسة البصر سواء كان حقيقة أو مجازا فالاعتراض من العمى أو التعامي.
وفي "أصول ابن السراج" - بعدما أورد السؤال بالآية - أجيب عنه بجوابين: أحدهما، أنه من عمى القلب وإليه ينسب أكثر أهل الضلال فيقال: ما أعماه، كما يقال: ما أحمقه!
والآخر، أن يكون من عمى العين، ولا يراد به أعمى من كذا، بل إنه أعمى كما
وذكر شيخنا "أبو القاسم الفضل بن محمد النحوي" رحمه الله أنط إذا قلت: ما أسود زيدا وما أسمر عمرا وما أصفر هذا الطائر وما أبيض هذه الحمامة وما أحمر هذا الفرس فسدت كل مسألة منها من وجه وصحت من وجه. فتفسد جميعها إذا أردت بها التعجب من الألوان وتصح كلها إذا أردت بها التعجب من سؤدد زيد ومن سمر عمرو ومن صفير الطائر ومن كثرة بيض الحمامة ومن حمر الفرس وهو أن ينتن فوه من البشم
ــ
كان في الدنيا أعمى، وهو في الآخرة أضل سبيلا. اهـ.
فإن قلت: كيف يكون في الآخرة أعمى وقد تظاهرت الأخبار بأن الخلق يحشرون كما بدءوا، كما قال تعالى:{كما بدأنا أول خلق نعيده} ؟ [الأنبياء: 104] قلت: قد أورد هذا "السيد المرتضى" قدس الله روحه في "الدرر والعزر" وأجاب عنه بأجوبة منها: أنه إذا كان من عمى البصر فهو كناية عن كونهم لا يهتدون إلى محجة الصواب وسواء الطريق، وإلا فهو ظاهر مع كلام آخر لا يخلو من نظر لمن له بصر.
وقد جاءت ألفاظا من هذا الباب تجوز على وجه وتمتنع على وجه آخر، فمنها أنك تقول زيد أسمر من عمر فإن كان من اللون لم يجز، وإن كان من السمر جاز وهذه الدجاجة أبيض من تلك فإن كان من البياض لم يجز وإن كان من البيض جاز، وهذا أسود من هذا فمن السواد لا يجوز ومن السيادة يجوز وله نظائر كثيرو.
وقد عيب على أبي الطيب قوله في الشيب:
(أبعد بعدت بياضا لا بياض له
…
لأنت أسود في عيني من الظلم)
هو من قصيدة أولها:
(ضيف ألم برأس غير محتشم
…
والسيف أحسن فعلا منه باللمم)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال في شرح "شواهد المغني": امتناع هذا مذهب البصريين. وذهب "الكسائي" و"ابن هشام" إلى جواز بناء اسم التفضيل من الألوان مطلقا، وتقدم المذهب الثالث قبيل هذا، وأنه مذهب الكوفيين، و"المتنبي" كوفي فلا اعتراض عليه وقوله: أبعد بفتح العين، أمر من بعد بكسر العين يبعد بفتحها، إذا هلك. وبياضا تمييز محول عن الفاعل، والعرب تكني بالبياض عن الحسن، ومنه لفلان اليد البيضاء، أي أهلكك الله من بياض لا يسر، والظلم جمع ظلمة وتكون اسما لثلاث ليال من آخر الشهر، وقد قيل: إنه المراد هنا. والمحتشم: المستحيي، وفيه كلام في "شرح أدب الكاتب"، والمعنى أن شبيه ظهر دفعة بغير تراخ كما قاله "الواحدي". ومعنى المطلع من [قول] "البحتري":
(رددت بياض السيف يوم لقيتني
…
مكان بياض الشيب حل بمفرقي)
وقد أجاد "صاحب البردة" في تضمينه بقوله:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولا أعدت من الفعل الجميل قرى
…
ضيف ألم برأسي غير محتشم
وقد غير إعرابه، ومثله جائز في التضمين، وهو في الاقتباس أحسن.