الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[65]- الفرق بين "تتابعت" وتتابعت
ويقولون: تتابعت النوائب على فلان، ووجه الكلام أن يقال: تتابعت بالياء المعجمة باثنتين من تحت، لأن التتابع يكون في الصلاح والخير، والتتابع يختص بالمنكر والشر كما جاء في الخبر (ما يحملكم على أن تتايعوا في الكذب كما تتابع الفراش في النار)، وكما روي أنه لما كثر شرب الخمر في عهد "عمر" رضي الله عنه جمع الصحابة رحمة الله عليهم وقال: إني أرى الناس قد تتابعوا في شرب الخمر واستهانوا بحدها، فماذا ترون؟ فقال له "علي" رضي الله عنه: أرى أن أحده ثمانين، لأني أراه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأحده حد المفتري فاستصوب "عمر" رأيه وأخذ به.
فوائد نفسية
وقد جاءت في لغة العرب ألفاظ خصت بالاستعمال في الشر دون الخير.
كلفظة "تهافت" التي لا تستعمل إلا في المكروه والحزن وكلفظة "أشفى" التي لا تقال إلا لمن أشرف على الهلكة، و"كالأرق" الذي لا يكون إلا في المكروه، لأن السهر يكون في المكروه والمحبوب، وكقولهم في مدح الميت "التأبين"، ولكلما يثور
ــ
(يقال: تتابعت النوائب على فلان، ووجه الكلام أن يقال: تتابعت بالياء المعجمة باثنتين من تحت، لأن التتابع يكون في الصلاح والخير والتتابع يختص بالمنكر والشر). إن أراد اختصاص التتابع - بالموحدة - بالخير فغير صحيح. ألا ترى قوله تعالى» فأتبعنا بعضهم بعضا «. وقال "ابن بري": كل عام لا مانع من استعمال في بعض أفراده بقرينة كما في هذه الآية، وقد فسره أهل اللغة بالتوالي مطلقًا، والتتابع بالياء التحتية: التهافت في الشر والنكر، واستعمله "الزمخشري" في سورة "هود" في الطاعة، وقال في
للضرر "هاج" ولأخبار السوء: "صاروا أحاديث" وللمذموم ممن يخلف "خلف" وللمتساويين في الشر " سواس وسواسية" كما جاء في المثل: سواسية كأسنان الحمار".
وكما قال الشاعر:
(سود سواسية كأن أنوفهم
…
بعر ينظمه الصبي بملعب)
(لا يخطبون إلى الكرام بناتهم
…
وتشيب أيمهم ولما تخطب)
وقد اختلف في سواسية، فقيل: هو جمع سواء، وقيل: بل وضعت موضع سواء.
ومما ينتظم في هذا السلك استعمالهم لفظه أزننته بمعنى اتهمته في المقابح دون المحاسن.
"الفائق": إنه من تاع إذا عجل، ولا يبعد أن يكون من تاع بمعنى إذا سال، كأن المتتابع يسرع إسراع السيول، وخص بالشر لأن التؤدة والرفق صفة كمال، ولهذا ذم بالعجلة وقيل: العجلة من الشيطان، وفي "الأساس": تتابع في الأمر رمى نفسه فيه بغير تثبت وتتابع في الشر تهافت، وفي "التهذيب" قال "أبو عبيد" التتابع التهافت في الشر والمتابعة عليه، ولم يسمع التتابع في الخير، وإنما سمعناه في الشر كما في "فقه اللغة" للصاحبي،
واستعمالهم الهنات، والهنوات في الكنايات عن المنكرات كقول الشاعر:
(فنعم الحي كلب غير أنا
…
وجدنا في جوارهم هنات)
وكقول الآخر:
(يزيد هنات من هنين فتلتوي
…
علينا وتأتي من هنين هنات)
قال الشيخ الإمام: وأنشدني والدي رحمه الله قال: أنشدني" أبو الحسين بن زنجي" اللغوي قال: أنشدني "أبو عبد الله النمري" لنفسه يرثي "أبا عبد الله الأزدي" وكانت بينهما ملاحاة في عهد الحياة:
(مضى الأزدي والنمري يمضي
…
وبعض الشكل مقرون ببعض)
(أخي والمجتني ثمرات ودي
…
وإن لم يجزني قرضي وفرضي)
(وكانت بيننا أبدًا هنات
…
توفر عرضه فيها وعرضي)
(وما هانت رجال الأزد عندي
…
وإن لم تدن أرضهم من أرضي)
ــ
والنوائب لا تختص بالشر وإن كثر استعمالها فيه. وفي حديث "مسلم""تعين على نوائب الحق قال النووي: النائبة الحادثة وتكون في الخير والشر قال "لبيد":
(نوائب من خير وشر كلاهما
…
فلا الخير ممدود ولا الشر لازب)
ثم إن المصنف ذكر ألفاظًا اختصت بالشر في الاستعجال كلفظة: تهافت. ليس هذا
[وحكي أن "أبا الحسن بن وهب" كتب إلى أخ له يداعبه:
(ظبيك هذا حسن وجهه
…
وما سوى ذاك جميعًا يعاب)
(فافهم كلامي يا أبا عامر
…
ما يشبه العنوان ما في الكتاب)
فأجابه:
(وراء ما راقك من حسنه
…
منافع مخبرها مستطاب)
(من طيب مسموع إذا ما شدا
…
يجلو به العيش ويصفو الشراب)
(وعشرة محمودة حفها
…
مساعدات وهنات عذاب)
قال الشيخ السعيد رحمه الله: وليس وصفه الهنات بالعذوبة يخرجها عن وصفها بالذم كما أوهم بعضهم، بل كما تسمى الخمر اللذة مع كونها إحدى الكبائر وأم الخبائث].
ومما لا يستعمل إلا في الشر قولهم: ندد به وسمع به، وقولهم: قبض له كذا وكذا، ومثله» وباؤوا بغضب من الله «أي رجعوا، وذكر أهل التفسير أنه لم يأت في القرآن [قط] لفظة الإمطار ولا لفظة الريح إلا في الشر وكما لم يأت لفظ
ــ
بلازم كما ادعاه قال في "النهاية": التهافت من الهفت وهو السقوط وأكثر ما يستعمل في الشر. اهـ.
(ولكل ما يثور به الضرر هاج) هذا أكثري أيضًا. يقال: هاج البحر والفحل والشوق إذا تحرك تحركًا شديدًا، ولم يخصه "الجوهري" وغيره بالشر.
(وللمذموم ممن يخلف خلف بسكون اللام" هذا قول لبعضهم. وفيه أقوال أخر، قال "البغوي": قال "أبو حاتم": الخلف بسكون اللام الأولاد الواحد والجمع فيه سواء لأنه
الرياح إلا في الخير. قال سبحانه وتعالى في الإمطار: » وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل «وقال عز اسمه في الريح: » وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم «وقال في الرياح» ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات «وهذا هو معنى دعائه عليه السلام عند عصوف الريح: "اللهم اجعلنا رياحًا ولا تجعلها ريحًا" وأخبرني "أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن أحمد بن المعدل" قراءة عليه قال حدثنا القاضي الشريف "أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي" قال حدثنا "أبو العباس محمد بن أحمد الأثرم" قال حدثنا "أحمد بن يحيي وهو "السوسي" قال: حدثنا "علي بن عاصم" قال: أخبرني "أبو علي الرجي" قال: حدثنا "عكرمة"
ــ
مصدر في الأصل نعت به فيعم، وقيل: إنه جمع لغوي أسم جمع فلا يطلق على الواحد، فلا يرد عليه أنه ليس من أبنية الجمع كما توهم.
والخلف بفتح اللام البدل، ولذا كان أولاً وقال "ابن الأعرابي" الخلف بالفتح الصالح وبالسكون الطالح، وقال "ابن شميل": الخلف بفتح اللام وسكونها يذكر في القرن السوء، وأما في القرن الصالح فبتحريك اللام لا غير.
عن "ابن عباس" رحمه الله قال: هاجت ريح أشفق منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبلها، وجثا على ركبتيه ومد يديه إلى السماء ثم قال: » اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا
…
«وذكر "ابن عمر" رضي الله عنه أن الرياح المذكورة في القرآن ثمان، أربع رحمة وأربع عذاب، فأما التي للرحمة فالمبشرات والمرسلات والذاريات والناشرات، وأما التي للعذاب فالصرصر والعقيم وهما في البر، والعاصف والقاصفات وهما في البحر.
ــ
وقال "محمد بن جرير": أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وبالذم بسكونها، وقد يحرك في الذم ويسكن في المدح. اهـ.
والحاصل أنه بالفتح والسكون. فهل هما بمعنى واحد شامل للصالح والطالح؟ أو بينهما فرق فيختص الأول بالصالح والثاني بالطالح دائمًا أو أكثريًا؟ أو الخلف بالفتح الصالح والطالح وبالسكون الطالح لا غير؟ أقوال، واشتقاقه هل هو من الخلافة أو من الخلوف وهو الفساد والتغير؟ قولان أيضًا، وعليه مبنى الخلاف. وخلف الله عليك، أي كان خليفة أبيك عليك أو من فقدته ممن لا يتعوض كالعم، وأخلف عليك رد عيلك مثل ما ذهب عنك، هكذا فرق بينهما بعض اللغويين على خلاف فيه.
[وللمتساويين في الشر سواس وسواسية كما جاء في المثل [سواسية كأسنان الحمار، وكما قال الشاعر]
(شبابهم وشيبهم سواء
…
سواسية كأسنان الحمار)
سواس وسواسية بمعنى متساوين وهو مأخوذ من التساوي والاستواء، ويقال: قوم سواء، ولا يثنى ولا يجمع، لأنه في الأصل مصدر، ووزن سواسية عند "الأخفش" فعافلة جمع لسواء على غير قياس، ووزن سوا فعا، ووزن سية فعة أو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فله رفعة لأن أكثر ما يلغون موضع اللام.
وأصل سية سوية فلما سكنت الواو وانكسر ما قبلها صارت الواو ياء، ثم حذفت إحدى اليائين تخفيفًا فصار سية، وكونه جمعًا هو المشهور وقيل: إنه اسم مفرد مثل كراهية، وضع موضع سواء وورد في المثل:"سواسية كأسنان الحمار".
وقال "الخنساء":
(اليوم نحن ومن سوا
…
نا مثل أسنان القوارح)
واختصاصه بالتساوي في الشر والذم ليس بمسلم. وكذا ادعاء أكثريته لتوقفه على الاستقراء، وفيه ما فيه، وقد ورد في الحديث ما يخالفه كقوله صلى الله عليه وسلم:"سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي ولا عجمي وإنما الفضل بالتقوي".
ولم يخصه الجوهري بالشر.
(ومما ينتظم في هذا السلك استعمالهم لفظ أزننته بمعنى اتهمته في المفاضح) لا يخفي أنه لما كان بمعنى التهمة لم يتصور استعماله في الخير بناء على تفسيره بما ذكر، لكنه ليس كذلك قال "السرقسطي" في أفعاله زننت الرجل زنا وأزننته ظننت به خيرًا أو شرًا أو نسبتهما إليه. اهـ، وفي "الكامل" للمبرد في قول الشاعر:
(إن كنت أزننتني بها كذبًا
…
جزء، فلاقيت مثلها عجلاً)
يقال: فلان يزن بكذا أي يسمى به وينسب إليه. اهـ. وفي "القاموس" زن فلانًا بخير أو شر ظنه به كأزنه وأزننته بكذا اتهمته. اهـ. فإذا كان بمعنى الظن أو النسية لم يختص بالشر ومن هنا ظهر وجه الاختلاف فيه.
[وأستعمالهم الهنات والهنوات في الكناية عن المنكرات).
قال "ابن بري": في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فقال لسلمة بن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأكوع: "ألا تنزل فتقول من هناتك" فهي يكنى بها عما يعسر التصريح به ولا يمكن تعيينه من معروف أو منكر.
والتفرقة بين الهنات والهنوات تحكم محض لأن الهنات جمع هنة وهي منقوصة وأصلها هنوة. والهنوات جمع على أصله. اهـ.
والحق أن الهنات لا تختص بما ذكره فإنها قد يكنى بها عن معين وفي "النهاية": ستكون هنات أي شر وفساد .. ويقال: في فلان هنات أي خصال شر، ولا يقال في الخير، وواحدها هنة وقد يجمع على هنوات، وقيل: واحدها هنة تأنيث هن، وهو كناية عن كل اسم جنس وفي حديث "عمر":
"وفي البيت هنات من قوظ"، أي قطع متفرقة وفي حديث "ابن الأكوع": ألا تسمعنا من هناتك أي من كلماتك أو من أراجيزك. وفي رواية من هنياتك وفي أخرى من هنيهاتك على قلب الياء هاء.
(وذكر بعض أهل التفسير أنه لم يأت في القرآن لفظ الإمطار) بكسر الهمزة مصدر أمطر (ولا لفظ الريح إلا في الشر، كما لم يأت لفظ الرياح إلا في الخير).
أمطر في الخير جاء في الكتاب المجيد كقوله» هذا عارض ممطرنا «لأنهم لم يريدوا به إلا الرحمة. وفي "الكشاف" الفرق بين مطر وأمطر أنه يقال: مطرتهم السماء إذا أصابتهم بمطر كفايتهم، وأمطرت عليهم أرسلته إرسال المطر، قال تعالى: » وأمطرنا عليهم حجارة «.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والمقصود كما في "الانتصاف" الرد على من قال: مطر في الخير وأمطر في الشر، وتوهم أنه تفرقة وضعية لورود ما يخالفه كقول "رؤبة":
(أمسى "بلال" كالربيع المدجن
…
أمطر في أكتاف غيم معين)
فبين أن معنى أمطرت أرسلت شيئًا على نحو المطر وإن لم يكن إياه، حتى لو أرسل الله من السماء أنواعًا من الخيرات والأرزاق كالمن جاز أن يقال فيه أمطرت السماء خيرات أي أرسلتها إرسال المطر، فليس للشر خصوصية بالمزيد، لكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئًا سوى المطر إلا وكان عذابًا فظن أن الواقع اتفاقًا مقصود في الوضع. فنبه العلامة على تحقيقه وأحسن وأجمل. اهـ. فما نقل عن "أبي عبيدة" وأهل اللغة من الفرق مؤول بما ذكر وهو الذي غر المصنف فلا وجه لرده بقوله:"عارض ممطرنا" لأنهم عنوا به الرحمة ولا إلى انتقاده بأن الكلام في الفعل، فإنه كله من ضيق العطن وقلة الفطن.
وأما كلامه في الريح والرياح فهو مما ذهب أدراج الرياح، وفي "الإتقان" عن "أبي بن كعب": كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة، وكل شيء من الريح فهو عذاب.
وورد في الحديث أنه كان يدعو عند عصوف الريح بقوله: » اللهم اجعلنا رياحًا ولا تجعلها ريحًا «.
ووجه بأن رياح الرحمة مختلفة الصفات والماهيات، فإذا هاجت ريح منها أثير في مقابلتها ما يعدلها ويكسر سورتها فتلطف وتنفع الحيوانات وتنمي النباتات.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأما في العذاب فتأتي من وجه بلا معارض ومدافع.
وقد خرج عن هذا قوله تعالى في سورة "يونس": » وجرين بهم بريح طيبة «لوجهين:
- لأنه وقع في مقابلة قوله جاءتها ريح عاصف فأفرد للمشاركة.
- ولأن الرحمة تقتضي هنا وحدة الريح، فإن السفينة إنما تسير بريح واحدة، ولو اختلفت الرياح عليه هلكت، ولهذا أكده بوصف الطيبة، ومثله قوله تعالى: » إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره «. ففي سكونها الضرر كاختلافها وأورد عليه قوله تعالى: » ولسليمان الريح «وهي كما ورد في الحديث: الصبا وهي ريح الأنبياء. إذا لم تكن عقوبة بل رحمة، وجاء في الحديث: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور". وجوابه ظاهر فإن تسخير الرياح "لسليمان" ليحمل كرسيه لمقصده، فهي كريح السفن يضر اختلافها، فالاعتراض ناشئ من عدم التدبر، وأما إيراد قوله: » إنا أرسلنا عليهم حاصباً «. فوهم لأن الكلام في لفظ الريح لا في معناه.