الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الأحوال التي هي غذاء القلوب حتى يُغني عن غذاء الأجسام برهةً من الزمان كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
…
عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء به
…
ومن حديثك في أعقابها حادي
قال أبو عبدالله غفر الله له: قول ابن القيم يرجع إلى قول الجمهور، وقد قال به قبله شيخ الإسلام رحمه الله، وهو الصحيح، وبالله التوفيق.
(1)
مسألة [2]: حكم الوصال في الصيام
.
• اختلفوا في حكمه على أقوال:
القول الأول: جواز ذلك لمن لم يشق عليه، وقد جاء عن عبد الله بن الزبير بأسانيد صحيحة عند ابن أبي شيبة،
(2)
وغيره أنه كان يواصل، فربما واصل خمسة عشر يومًا، وربما واصل سبعة أيامٍ، وهكذا.
وذهب إلى ذلك أيضًا أخت أبي سعيد الخدري،
(3)
ومن التابعين: عبدالرحمن ابن أبي نُعْم، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وإبراهيم التيمي، وأبو الجوزاء.
وحُجَّةُ أهل هذا القول أنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- واصل بهم بعد أن نهاهم، فَعُلِمَ أنه أراد الرحمة بهم، والتخفيف عنهم.
(1)
انظر: «فتح الباري» (4/ 244)، «السبل» (4/ 124 - 125)، «المجموع» (6/ 358)، «زاد المعاد» (2/ 32)، «شرح كتاب الصيام من العمدة» (1/ 537).
(2)
انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (3/ 84)، «تفسير الطبري» [آية:187] من سورة البقرة.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 82)، وفي إسناده: بشر بن حرب الأزدي، وهو شديد الضعف.
القول الثاني: التحريم، وهو مذهب الجمهور، ونصَّ عليه الشافعي في «الأم» ، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وصرَّح به ابن حزمٍ، وصححه ابن العربي، وصرَّح به الشوكاني في «الدراري» وصديق في «الروضة» .
واستدلوا:
1) بنهي النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما في حديث الباب، وجاء من حديث ابن عمر، وعائشة، وأنس رضي الله عنهم كما في «الصحيحين» ،
(1)
ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في «البخاري» (1963).
2) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لو تأخر الهلال؛ لزدتكم» كالْمُنَكِّلِ بهم حين أَبوا أن ينتهوا.
3) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حديث أنس: «أَمَا وَالله، لَوْ تَمَادَّ لِي الشَّهْرُ؛ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ» ، فسماهم متعمِّقين، وقد قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:«هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُون» قالها ثلاثًا. رواه مسلم (2670) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
4) قالوا: وقد ذكر في الحديث ما يدل على أنَّ الوصال من خصائصه، فقال:«إني لست كهيئتكم» ، ولو كان مباحًا لهم؛ لم يكن من خصائصه.
5) ما أخرجه أحمد (5/ 225)، والطبراني (1231)، وغيرهما بإسناد صحيح، أنَّ ليلى امرأة بشير بن الخصاصية رضي الله عنهما قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة، فمنعني بشير، وقال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، وقال: «يفعل ذلك
(1)
أخرجها البخاري برقم (1962)(1964)(7241)، ومسلم برقم (1102)(1105)(1104).
النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى وأتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا».
القول الثالث: الكراهة، وهو مذهب الحنابلة، ورجَّحه الحافظ في «الفتح» ، والشوكاني في «النيل» .
واستدلوا:
1) بأنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- واصل بأصحابه؛ فدلَّ ذلك على الجواز مع الكراهة جمعًا بين الأدلة.
2) بما أخرجه أبو داود (2374) وغيره من طريق: عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من الصحابة قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة، والمواصلة، ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه.
3) ما رواه البزار كما في «كشف الأستار» (1024)، والطبراني (7011) (7012) من حديث سمرة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال، وليس بالعزيمة.
4) إقدام الصحابة على الوصال بعد النهي، فدلَّ على أنهم فهموا أنَّ النهي للتنزيه لا للتحريم، وإلا لما أقدموا عليه.
والصحيح -والله أعلم- هو المذهب الثاني -أعني قول الجمهور-؛ للأدلة التي ذكروها، وقد رجَّح ذلك الإمام ابن عثيمين رحمه الله.
وأما الرَّدُّ على أدلة المذهب الثالث والأول فكما يلي:
1) أما عن مواصلة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بأصحابه؛ فلم يكن تقريرًا لهم، كيف وقد نهاهم؟ ولكن تقريعًا وتنكيلًا، فاحتمل منهم الوصال بعد نهيه لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم؛ لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهي، وليس إقراره لهم على الوصال لهذه المصلحة الرَّاجحة بأعظم من إقرار الأعرابي على البول في المسجد لمصلحة التأليف، ولئلا ينفر عن الإسلام، ولا بأعظم من إقراره المسيء في صلاته على الصلاة التي أخبرهم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنها ليست بصلاة؛ لمصلحة تعليمه وقبوله بعد الفراغ؛ فإنه أبلغ في التعليم والتعلم. انتهى من «زاد المعاد» بتصرفٍ يسير.
2) ما أخرجه أبو داود إسنادُه صحيحٌ، وقد صرَّح عبد الرحمن بالتحديث من هذا الصحابي، ولكن قوله:(ولم يحرمهما) إنما هو فهمٌ من هذا الصحابي كما فهم ذلك عبدالله بن الزبير، ولم يَعْنِ هذ الصحابي أنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال:(ليس بحرام).
3) وأما حديث سمرة؛ فضعيفٌ، وقد ضعَّفَهُ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 158)، وسبب ضعفه هو: جعفر بن سعد بن سمرة، وهو ضعيفٌ، وسليمان بن سمرة بن جندب، وهو مجهول.
4) أنَّ فعل الصحابة الذين واصلوا ليس بحجة علينا، بل الأمر كما قال ابن حزم رحمه الله: يجعلنا نعلم أنه لا حجة في قول أحد غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.اهـ