الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسائل والأحكام المستفادة من الأحاديث
مسألة [1]: احتجام الصائم
.
• ذهب الجمهور، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة إلى أنَّ الحجامة لا تفطر الصائم، وصحَّ هذا القول عن ابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي سعيد، والحسين بن علي رضي الله عنهم، وجاء عن ابن مسعود، وأم سلمة، وفيهما ضعفٌ.
وقال به من التابعين: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والشعبي، والنخعي.
واستدلوا بما يلي:
1) حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي في «البخاري» ، وهو المذكور في الكتاب.
2) حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري (1940)، أنَّ ثابتًا البناني قال: سُئل أنس: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف. ولفظه عند أبي داود (2375): ما كُنَّا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد.
3) ما أخرجه أبو داود (2374) بإسناد صحيح عن رجل من الصحابة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نهى عن الحجامة، والمواصلة ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه.
4) ما أخرجه النسائي في «الكبرى (2/ 237)، وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم. وإسناده ظاهره الصحة؛ إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وقد رجَّح وقفه أبو زرعة، وأبو حاتم، والترمذي، وابن خزيمة، وغيرهم.
4) حديث أنس: «أول ما كُرهت الحجامة للصائم» ، وهو المذكور في الباب، وقد تقدَّم أنه ضعيفٌ.
استدلوا بالقياس على الفصد، والرُّعاف، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: الفطر مما دخل، وليس مما خرج.
وهذا المذهب رجَّحه البخاري في «صحيحه» ، وابن حزم في «المحلَّى» ، وهو ترجيح الإمام الألباني رحمه الله.
• وذهب جمع من أهل العلم إلى أنه يفطر الحاجم، والمحجوم، وعليهما القضاء، وهو قول عطاء، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، ومن الشافعية ابن خزيمة، وابن المنذر، وأبو الوليد النيسابوري، وابن حبان، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ورجَّحه الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، وقد جاء عن علي رضي الله عنه، أخرجه عبد الرزاق (4/ 210)، من طريق: الحسن عنه، وهو منقطعٌ، وجاء عن عائشة رضي الله عنها عند ابن أبي شيبة، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وفيه ضعف.
• وقد شذَّ عطاء فأوجب الكفارة أيضًا، ولا دليل على ذلك. واستدل هؤلاء
بقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «أفطر الحاجم، والمحجوم» .
وأوردوا على القول الأول ما يلي:
1) حديث ابن عباس رضي الله عنهما أعلَّه الإمام أحمد وغيره كما تقدم.
1) أجاب ابن خزيمة بما حاصله: أنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان مُحرمًا، والمحرم يكون مسافرًا، والمسافر يجوز له أن يُفطِرَ، سواء بالأكل، أو بالشرب، أو الحجامة، فليس في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يمنع الإفطار.
2) أنَّ حديث ابن عباس رضي الله عنهما مُبْقِي على الأصل، وحديث:«أفطر الحاجم والمحجوم» ناقلٌ عن الأصل، والناقل مُقَدَّمٌ على المبْقِي.
والصحيح هو القول الأول، وهو قول الجمهور.
وأما قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «أفطر الحاجم، والمحجوم» ، فقد أُجِيبَ عنه بأجوبة منها:
1) ما ذكره الشافعي في «الأم» ، وتبعه عليه الخطابي، والبيهقي، وسائر الشافعية من أنَّ هذا الحديث منسوخٌ بحديث ابن عباس، وغيره مما ذكرنا.
قالوا: ويدل على النسخ أنَّ ابن عباس لم يصحب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مُحرِمًا إلا في حجة الوداع، وحديث:«أفطر الحاجم والمحجوم» كان يوم الفتح كما جاء في بعض ألفاظه.
ويؤيده حديث أبي سعيد، وحديث أنس الَّلذان تقدم ذكرهما في أدلة المذهب الأول.
وقد اعتمد على هذا الجواب ابن حزم، ثم الشيخ الألباني رحمهما الله، مُعْتَمِدَيْنِ على حديث أبي سعيد، وحديث أنس رضي الله عنهما.
وَيَرِدُ على هذا الجواب: أنَّ الرَّاجح في حديث ابن عباس أنهما قضيتان (احتجم وهو محرمٌ)(احتجم وهو صائمٌ)، وجمع بينهما بعض الرُّواة كما في «البخاري» ، قرر ذلك الحافظ في «التلخيص» .
وحديث أبي سعيد، وأنس مُعَلَّان كما تقدم، فيبقى هذا الجواب احتمالًا، وهو أقوى الأجوبة، والله أعلم.
2) ما أجاب به الشافعي أيضًا، وتبعه الخطابي، وبعض الشافعية من أنَّ المراد بحديث:«أفطر الحاجم، والمحجوم» أنهما كانا يغتابان في صومهما، كما جاء في بعض طرق الحديث
(1)
، وعلى هذا التأويل يكون المراد بإفطارهما أنه ذهب أجرهما، كما قال بعض الصحابة لمن تكلم حال الخطبة:(لا جمعة لك)، أي: ليس لك أجرها، وإلا فهي صحيحة مُجزئةٌ عنه.
لكن لم يصح في الحديث أنهما كانا يغتابان، فيبقى هذا الجواب احتمالًا فقط.
3) ما أجاب به الخطابي، والبغوي رحمة الله عليهما، أنَّ معناه:(تَعَرَّضَا للإفطار)، أما الحاجم؛ فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى جوفه عند المص، وأما المحجوم؛ فلأنه لا يأمن ضعف قوته بخروج الدم، فيؤول
(1)
لا يثبت ذكر الغيبة في الحديث، أخرجه البيهقي في «الكبرى» (4/ 268)، من حديث ثوبان رضي الله عنه، وفي إسناده: يزيد بن ربيعة الرحبي الدمشقي، وهو متروك، وذكر الحافظ ابن حجر عن ابن المديني أنه قال: حديث باطل.
أمره إلى أن يفطر.
وإلى هذا القول أشار الشوكاني رحمه الله، وسيأتي كلامه.
4) ما ذكره الخطابي رحمه الله أيضًا أنه مرَّ بهما قريب المغرب، فقال:«أفطر الحاجم، والمحجوم» أي: حان فطرهما، كما يقال: أمسى الرجل، إذا دخل في وقت المساء، أو قاربه.
5) أنه تغليظٌ ودعاءٌ عليهما؛ لارتكابهما ما يعرضهما لفساد صومهما.
6) أنَّ حديث ابن عباس أصح، ويعضده القياس؛ فوجب تقديمه، أجاب بهذا الشافعي.
وأقوى هذه الأجوبة الأول، ثم الثالث.
وأما ما أوردوه على الجمهور، فالجواب عنه كما يلي:
1) إعلال الإمام أحمد لذكر الصيام فيه قد عارضه في ذلك الإمام البخاري، وصحح ذكر الصيام في الحديث.
وقد بيَّنَ الحافظ أنهما قضيتان:
الأولى: احتجم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو محرمٌ، وهذا الحديث متفق على صحته.
الثانية: احتجم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو صائمٌ، فجاء بعض الرواة فجمع بينهما، ومن هنا حصل الإشكال؛ لكون أكثر الرواة يروونه بلفظ:«وهو محرمٌ» فقط.
2) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد أن ذكر كلام ابن خزيمة: وتعقب بأنَّ
هذا الحديث ما ورد هكذا إلا لفائدة؛ فالظاهر أنها وجدت منه الحجامة وهو صائمٌ لم يتحلل من صومه واستمر.
وقال الخطابي رحمه الله في «معالم السنن» : وهذا تأويلٌ باطلٌ؛ لأنه قال: احتجم وهو صائمٌ. فأثبت له الصيام مع الحجامة ولو بطل صومه بها لقال: أفطر بالحجامة.
قال النووي رحمه الله: قلت: ولأنَّ السابق إلى الفهم من قول ابن عباس «احتجم وهو صائمٌ» الإخبار بأنَّ الحجامة لا تبطل الصوم، ويؤيده باقي الأحاديث المذكورة. اهـ
3) أنَّ هذا الترجيح لا يُرجع إليه إلا عند عدم إمكان الجمع وعند عدم النسخ، والأمر هنا بخلاف ذلك، ومع التسليم فقد يُعارض بترجيح حديث ابن عباس على حديث:«أفطر الحاجم والمحجوم» ، والله أعلم.
ونسأله تعالى أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وما أحسن ما قاله الشوكاني رحمه الله بعد أن ذكر الخلاف: فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ مَكْرُوهَةٌ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ يَضْعُفُ بِهَا، وَتَزْدَادُ الْكَرَاهَةُ إذَا كَانَ الضَّعْفُ يَبْلُغُ إلَى حَدٍّ يَكُونُ سَبَبًا لِلْإِفْطَارِ، وَلَا تُكْرَهُ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ لَا يَضْعَفُ بِهَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تَجَنُّبُ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ أَوْلَى، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ قَوْلِهِ:«أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» عَلَى المَجَازِ؛ لِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الصَّارِفَةِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ. اهـ.
(1)
(1)
انظر: «شرح المهذب» (6/ 349 - 353)، «الفتح» (1938)، «نصب الراية» (2/ 472 - )، «التلخيص» (2/ 366 - )، «سبل السلام» (4/ 130 - 135)، «الشرح الممتع» (6/ 392)، «نيل الأوطار» (1644)، «توضيح الأحكام» (3/ 169 - 171)، «شرح كتاب الصيام من العمدة» (1/ 406 - 450)، «مصنف ابن أبي شيبة» (3/ 51)، «مصنف عبد الرزاق» (4/ 210 - ).