الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
678 -
وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(1)
679 -
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بِلَفْظِ: «لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» .
(2)
المسائل والأحكام المستفادة من الحديثين
مسألة [1]: حكم صيام الدهر
.
• في هذه المسألة أقوال:
القول الأول: أنه يكره صيام الدهر، وهو مذهب إسحاق، وأهل الظاهر، وهو رواية عن أحمد، ورجَّح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم.
واستدلوا بما يلي:
1) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «لا صام من صام الأبد» ، وقوله:«لا صام ولا أفطر» . قال ابن العربي رحمه الله: قوله «لا صام من صام الأبد» إن كان معناه الدعاء فيا ويح من أصابه دعاء النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وإن كان معناه الخبر؛ فيا ويح من أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعًا لم يكتب له الثواب.
2) قوله: «أحب الصيام إلى الله صيام داود» أخرجه البخاري (3420)، ومسلم
(1)
أخرجه البخاري (1977)، ومسلم (1159)(186).
(2)
أخرجه مسلم برقم (1162).
1159 -
(190) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وقال: «لا أفضل من صيام داود» أخرجه البخاري (1976)، ومسلم (1159)، من حديثه أيضًا.
قال ابن القيم رحمه الله: فَإِنّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا؛ لَزِمَ أَحَد ثَلَاثَةِ أُمُورٍ مُمْتَنِعَةٍ: أَنْ يَكُونَ أَحَبّ إلَى الله مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ وَأَفْضَلُ مِنْهُ؛ لِأَنّهُ زِيَادَةُ عَمَلٍ، وَهَذَا مَرْدُودٌ بِالْحَدِيثِ الصّحِيحِ -وذكر الحديث المتقدم- وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الْفَضْلِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ أَيْضًا، وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا مُتَسَاوِيَ الطّرَفَيْنِ لَا اسْتِحْبَابَ فِيهِ وَلَا كَرَاهَةَ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ؛ إذْ لَيْسَ هَذَا شَأْنُ الْعِبَادَاتِ، بَلْ إمّا أَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً، أَوْ مَرْجُوحَةً، وَاَللهُ أَعْلَمُ. اهـ
القول الثاني: أنه يُستحبُّ صوم الدهر لمن قدر عليه، ولم يفوت حقًّا، ولا يصوم ما حرم الله عليه من الأيام، وهو قول الجمهور من أهل العلم.
واستدلوا بما يلي:
1) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «من صام رمضان، ثم أتبعه سِتًّا من شوال فكأنما صام الدهر» .
(1)
2) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر وإفطاره» .
(2)
، فهذان الحديثان يدلان على أفضلية صوم الدهر؛ لأنَّ المشبه به أفضل.
3) حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه، قال: يا رسول الله، إني أسرد الصوم
…
رواه مسلم (1121)(104).
4) أنه قد جاء عن عمر، وعثمان، وأبي طلحة أنهم كانوا يصومون كل يومٍ. وفي
(1)
تقدم تخريجه في «البلوغ» رقم (663).
(2)
أخرجه أحمد (5/ 34)، عن قرة بن إياس رضي الله عنه بإسناد صحيح.
البيهقي عن عائشة رضي الله عنها بإسنادٍ صحيح أنها كانت تصوم الدهر في السفر والحضر. وحمله البيهقي على سرد الصوم.
القول الثالث: جواز صيام الدهر، وهو قول ابن المنذر، وطائفة.
القول الرابع: التحريم، وهو قول ابن حزم، والصنعاني، واستدلوا بنفس أدلة المذهب الأول، وزادوا عليه:
5) حديث أبي موسى رضي الله عنه، عند أحمد (4/ 414)، والنسائي كما في «تحفة الأشراف» (6/ 422 - 423)، وعبد بن حميد (563)، مرفوعًا:«من صام الدهر ضُيِّقَت عليه جهنم، وعقد بيده» .
ورجاله ثقات؛ إلا أنَّ الراجح وقفه؛ فإنه من طريق: قتادة، عن أبي تميمة، عن أبي موسى، به، فرواه شعبة، وهمام، عن قتادة بإسناده موقوفًا، ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بإسناده مرفوعًا، لكن الراوي عن سعيد هو: ابن أبي عدي، وقد روى عنه بعد الاختلاط، وقد تابع قتادة على الوقف: سفيان الثوري، كما في «مصنف عبدالرزاق» (7866)، وعقبةُ بن عبدالله الأصم، كما في «زوائد عبدالله» على «الزهد» لأبيه (ص 246)، وتابع قتادة على الرفع: الضحاك بن يسار البصري، كما في «مسند أحمد» (4/ 414)، والضحاك ضعفه جماعة من الحفاظ كما في «تعجيل المنفعة» .
(1)
قلتُ: ومع ترجيح وقفه؛ فلا يَبْعُدُ أن يكون له حكم الرفع.
(1)
انظر: «تحقيق المسند» (19713).
6) روى ابن أبي شيبة (3/ 79) بإسناد صحيح عن أبي عمرو الشيباني، قال: بلغ عمر أنَّ رجلًا يصوم الدهر، فأتاه، فعلاه بالدُّرَّةِ، وجعل يقول: كل يا دهري.
قال ابن حزم رحمه الله: فصحَّ أن تحريم صوم الدهر كان من مذهبه، ولو كان عنده مباحًا لما ضرب فيه، ولا أمر بالفطر.
والراجح -والله أعلم- هو القول الأول؛ لدلالة قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «لا صام ولا أفطر» .
وقد أجاب الجمهور عن هذا: بأنه محمول على من صام الدهر حقيقةً؛ فإنه يدخل فيه ما حرم صومه كالعيدين.
لكن قال ابن القيم رحمه الله: وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِهَذَا مَنْ صَامَ الْأَيّامَ المُحَرّمَةَ؛ فَإِنّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ: أَرَأَيْت مَنْ صَامَ الدّهْرَ؟ وَلَا يُقَالُ فِي جَوَابِ مَنْ فَعَلَ المُحَرّمَ: (لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ)؛ فَإِنّ هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنّهُ سَوَاءٌ فِطْرُهُ وَصَوْمُهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَا حَرّمَ الله عَلَيْهِ مِنْ الصّيَامِ، فَلَيْسَ هَذَا جَوَابًا مُطَابِقًا لِلسّؤَالِ عَنْ المُحَرّمِ مِنْ الصّوْمِ. اهـ
وأما الرد على أدلة الجمهور:
1)، 2) قال ابن القيم رحمه الله: نَفْسُ هَذَا التّشْبِيهِ فِي الْأَمْرِ الْمُقَدّرِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ؛ فَضْلًا عَنْ اسْتِحْبَابِهِ، وَإِنّمَا يَقْتَضِي التّشْبِيهَ بِهِ فِي ثَوَابِهِ لَوْ كَانَ مُسْتَحَبّا، وَالدّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ؛ فَإِنّهُ جَعَلَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ مِنْ كُلّ شَهْرٍ
بِمَنْزِلَةِ صِيَامِ الدّهْرِ؛ إذْ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ صَامَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتّينَ يَوْمًا، وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا حَرَامٌ قَطْعًا، فَعُلِمَ أَنّ الْمُرَادَ بِهِ حُصُولُ هَذَا الثّوَابِ عَلَى تَقْدِيرِ مَشْرُوعِيَّةِ صِيَامِ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتّينَ يَوْمًا. اهـ
3) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سُؤَال حَمْزَة إِنَّمَا كَانَ عَنْ الصَّوْم فِي السَّفَرِ لَا عَنْ صَوْم الدَّهْر، وَلَا يَلْزَم مِنْ سَرْدِ الصِّيَامِ صَوْمُ الدَّهْرِ، فَقَدْ قَالَ أُسَامَة بْن زَيْد: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ، فَيُقَالُ: لَا يُفْطِرُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
(1)
، وَمِنْ الْمَعْلُوم أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَصُومُ الدَّهْرَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ السَّرْدِ صِيَامُ الدَّهْرِ. اهـ
4) الذي جاء عن عمر صحَّ عنه كما في «مصنف ابن أبي شيبة» (3/ 79)، ولكن الذي جاء عنه السرد في الصيام، ولفظه في «المصنف»: قال ابن عمر: إنَّ عمر سرد الصوم قبل موته بسنتين. وتقدَّم أنَّ السرد هو المتابعة بالصيام، ولا يلزم منه صوم الدهر.
وأما أثر عثمان رضي الله عنه، فأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 79)، من طريق: الزبير بن عبد الله بن رهيمة عن جدته رهيمة، عن عثمان، والزبير بن عبدالله لَيِّن الحديث كما في «الجرح والتعديل» ، وجدَّته مجهولة.
وأما أثر أبي طلحة فهو صحيح عنه، أخرجه البخاري برقم (2828)، ولكنه
(1)
أخرجه أحمد (5/ 201)، وكذلك النسائي (4/ 202)، بإسناد حسن.
ليس بحجة، فقد صحَّ عنه أنه كان يأكل البرد في صيامه.
قال ابن حزمٍ رحمه الله: فصومه الدهر ليس بحجة، ولئن كان صومه الدهر حجة؛ فإنَّ أكله البرد في صيامه حجة. اهـ
وأما الرد على أدلة القول الرابع:
أما حديث أبي موسى فأحسن ما يقال فيه ما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله حيث قال: والأَولى إجراء الحديث على ظاهره وحمله على من فوت حقًّا واجبًا بذلك؛ فإنه يتوجه إليه الوعيد. اهـ
قال أبو عبد الله غفر الله له: وقد يحمل أيضًا على من صام الدهر مع أيام العيد؛ لأنه هو الأصل في إطلاق الدهر، ولأنَّ هذا الحديث يدل على أنه يأثم، وقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:«لا صام ولا أفطر» يُشعِر بأنه لا يأثم ولا يُثاب.
وأما ما صحَّ عن عمر من ضرب الرجل؛ فمحمول على أنه رأى أنَّ ذلك الرجل قد أضرَّ بنفسه، أو رأى المصلحة بضربه مع كراهيته فقط، فقد جاء عن عمر رضي الله عنه في «صحيح مسلم» (31): أنه ضرب أبا هريرة رضي الله عنه لما أمره النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن يُبشِّرَ الناس بأنَّ من قال: «لا إله إلا الله مستيقنًا من قلبه دخل الجنة» ؛ لكونه رأى المصلحة بعدم ذلك، والله أعلم.
وقد رجَّح القول بالكراهة الشوكاني رحمه الله في «الدراري» ، وصديق بن حسن في «الروضة الندية» ، والشيخ الألباني في «تمام المنة» .
(1)
(1)
انظر: «الفتح» (1977)، «زاد المعاد» (2/ 80 - 83)، «السبل» (4/ 179)، «المحلَّى» (790)، «تمام المنة» (ص 409).