الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكفروا بعيسى عليه السلام وبالإنجيل، واتّهموا أمه مريم البتول العذراء الطاهرة بالفاحشة، وزعموا أنهم صلبوا المسيح، وما صلبوه وما قتلوه ولكن شبّه لهم، وإنما أنجاه الله من أيديهم، وتوفّاه ورفعه إليه، والله قوي قاهر لا يغلب، حكيم في صنعه وتدبيره وتقديره، وظل الخلاف قائما بين المحاولين لأخذه أهو عيسى أم غيره؟ وما من أحد من أهل الكتاب قبل موته إلا ليؤمنن بعيسى إيمانا صحيحا لا انحراف فيه، ويعلم أنه نبي بشر، لكنه إيمان لا ينفع حينئذ، ويوم القيامة يشهد عيسى عليه السلام على من كذبه أو وصفه بغير حقيقته.
تحريم الرّبا وبعض الطّيبات على اليهود
إن مصدر التشريع في الأديان ومنبع بيان الحلال والحرام هو واحد غير متعدد، وهو الله جل جلاله الذي يشرع لكل قوم ولكل زمان ومكان ما يناسب ويحقق مصالح العباد، وقد تتفق الشرائع الإلهية في بعض الأحكام وهي الأحكام الأساسية المتعلقة بأصول العقيدة والفضائل والأخلاق، كالإيمان بالله وحده لا شريك له، والصدق والوفاء بالعهد، وتحريم الظلم والرّبا والكذب والغدر والخيانة، وقد تختلف الشرائع الإلهية في بعض الأحكام الجزئية، كتحريم بعض المطعومات على من قبلنا، وإباحتها في شرعنا، والمؤمن حقا يؤمن بكل ما شرع الله وأنزل في كتبه على أنبيائه ورسله.
وهذا أنموذج من أحوال الوفاق والاختلاف بين الشرائع، قال الله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
«1»
(1) أي أخصّ وأعني المقيمين الصلاة، وأمدحهم.
[النساء: 4/ 160- 162] .
يخبر الله تعالى أنه بسبب ظلم الذين هادوا بما اقترفوا من آثام عظيمة، ومنكرات قبيحة، وبسبب صدّهم الناس وأنفسهم عن اتّباع الحق، حرّم الله عليهم طيّبات كانت حلالا لهم، لعلهم يرجعون إلى جادة الاستقامة وطريق الهداية القويمة. لقد حرّم الله عليهم كل ما له ظفر من الحيوانات كالإبل والأوز والبط، وحرّم عليهم شحوم الأبقار والأغنام، قال الله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا «1» أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146)[الأنعام: 6/ 146] أي إنما حرّمنا عليهم ذلك، لأنهم يستحقون التحريم بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه.
ومن ألوان ظلمهم: صدّهم أنفسهم وغيرهم من الناس عن الإيمان بالله، وعنادهم وعصيانهم موسى عليه السلام، وأمرهم بالمنكر، ونهيهم عن المعروف، وكتمانهم البشارة بالنّبي محمد صلى الله عليه وسلم، وجحدهم أمره وإنكارهم رسالته.
ومن مظالمهم: أخذهم الرّبا الذي نهاهم الله عنه على ألسنة أنبيائهم، والرّبا: هو بيع الدرهم بدرهمين إلى أجل في المستقبل، ونحو ذلك مما هو مفسدة ومضرّة واستغلال، نهوا عن ذلك، فاحتالوا عليه بأنواع الحيل، وأكلوا أموال الناس بالباطل كالرّشاوى والخيانات وأنواع الغشّ والنّصب وغير ذلك مما لا مقابل له، كما قال الله تعالى يصفهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة: 5/ 42] والسّحت: المال أو الكسب الحرام.
(1) أي الأمعاء.
وكان جزاؤهم على تلك المظالم وظلمهم أنفسهم وغيرهم: أن الله هيّأ لهم ولأمثالهم من الكافرين عذابا مؤلما ذا إهانة وذلّ في نار جهنم.
ثم استثنى الله تعالى من استحقاق العذاب فئة متنورة مؤمنة هم الراسخون في علم التوراة الذين اطّلعوا على حقائق الدين، وتحققوا من أمر محمد عليه الصلاة والسلام وعلاماته، وآمنوا إيمانا صادقا بالله، وبما أنزل إلى محمد وبقية الرّسل الكرام قبله كموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وهي القرآن والتوراة والإنجيل، وصدقوا بالبعث بعد الموت وبالجزاء العادل على الأعمال، وأدّوا زكاة أموالهم للمستحقين، وأطاعوا أوامر ربّهم، وأقاموا الصلاة على وجهها الصحيح المشروع، تامة الأركان، مستوفية الشروط القلبية بالخشوع والاطمئنان، والشروط العضوية بممارسة الأركان القولية والفعلية، هؤلاء الموصوفون بما تقدم من الصفات وهي صفات المؤمنين إيمانا حقيقيّا في هذا العالم، سيؤتيهم ربّهم أجرا عظيما هو الجنة، لا يدرك حقيقته ووصفه إلا الله تعالى.
روى ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن الآية: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ.. أنزلت في عبد الله بن سلام، وأسيد بن سعية، وثعلبة بن سعية، وأسد بن عبيد، حين فارقوا اليهود وأسلموا، أي دخلوا في الإسلام، وآمنوا بالقرآن وبما أرسل الله به محمدا صلى الله عليه وسلم. ومنهم مخيريق أيضا، كان هؤلاء من علماء اليهود وأحبارهم، وكان مخيريق غنيّا كثير الأموال، أسلم وأوصى بأمواله للنّبي صلى الله عليه وسلم، مات في غزوة أحد. فرضي الله عن مواكب الإيمان، وفتيان الإسلام، وجند الحق والفضيلة والاستقامة إلى يوم الدين.