الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إحداهما: كنا غافلين عن الأدلة والبراهين الصحيحة المثبتة لتوحيد الإله. والأخرى:
كنا تبعا لأسلافنا، فكيف نهلك؟ والذنب إنما هو ذنب من بدأ طريق الانحراف وأضلنا، فوقعت شهادة بعضهم على بعض أو شهادة الملائكة عليهم بالإقرار السابق بتوحيد الله، لتنقطع لهم هذه الحجج، ويزول اعتذارهم بمثل هذه الأعذار الواهية.
مثل المكذب الضال- بلعام بن عابر
تتكرر أمثال القرآن الكريم للعبرة والعظة، والتأمل والزجر، وتذكر الأمثال إما بحال الأمم والجماعات، وإما بحال بعض الأفراد، وفي قمة هؤلاء رجل من بني إسرائيل اسمه بلعام بن باعوراء أو عابر دعا على موسى مقابل هدية من اليهود، فصار مثلا شهيرا في التاريخ بسبب ضلاله وتكذيبه، حكى القرآن الكريم قصته في قوله تعالى:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)
«1» «2» «3» «4» «5» [الأعراف: 7/ 175- 177] .
أراد الله في قرآنه تربية الأجيال والأشخاص تربية إيمانية صلبة، لا تتأثر بإغراءات الحياة والمادة والمال، وإنما تظل وفية للمبدأ، مخلصة للعقيدة، دون أن
(1) خرج منها بكفره.
(2)
الضالين الهالكين.
(3)
ركن إلى الدنيا.
(4)
تشدد عليه.
(5)
يخرج لسانه بالنفس.
تضعف أو تتردد أو تنحرف أمام شهوات الدنيا ومفاتنها، ومن هؤلاء بلعام بن باعوراء أو عابر، كان من علماء بني إسرائيل أو أنه كان من جملة الجبارين الذين غزاهم موسى عليه السلام، فلما قرب منهم موسى لجؤوا إلى بلعام وكان صالحا مستجاب الدعوة، فدعا على موسى مقابل هدية مالية، فاستجيب له، ووقع موسى وقومه في صحراء التيه بدعائه.
والمعنى: واتل أو اقرأ يا محمد على الحاضرين في عصرك من الكفار وغيرهم خبر ذلك الرجل الذي علمناه آياتنا، ولكنه تركها ولم يعمل بها، وتجرد منها إلى الأبد، فلحقه الشيطان وأدركه، وصار قرينا له، ومصغيا لوسوسته، فأصبح من الضالين المكذبين الغاوين الكافرين، لميله إلى الدنيا واتباعه الهوى والشيطان. وكان مصيره أن موسى عليه السلام قتل ذلك الرجل المنسلخ عن آيات الله.
وبخه الله وأبان أنه تعالى لو شاء لرفع هذا الرجل بالآيات وجعل له منزلة عظيمة من منازل العلماء الأبرار، بأن يوفقه ربه للهداية والعمل بالآيات المنزلة.
ولكنه ركن إلى الدنيا ومال إليها وشغف بلذائذها واتبع هواه، فلم يوجه همّه إلى نعيم الآخرة ولم يهتد بآيات ربه، ولم يشكر نعمة الله عليه، ولم تتجه نفسه إلى ذرا الكمال الروحي، مع أنه قد أوتي علما، وتدنى إلى مغريات الأرض، وإمهال الله له، وأصبح مثله في الذلة والحقارة والخسة والدناءة كمثل أو صفة الكلب في أخس الأحوال وأذلها، وهي حال دوام اللهث به، سواء طورد وقوتل أو ترك دون طرد، بسبب تجرده من العمل بآيات الله والتزام معرفتها. لقد عوقب في الدنيا بأنه كان يلهث كما يلهث الكلب، أو أنه كان ضالا قبل أن يؤتى الآيات، وبعد أن أوتيها أيضا، فلم تنفعه الآيات.
ذلك المثل الواضح في الغرابة هو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، واستكبروا عنها، ولم تنفعهم الموعظة، إنهم كانوا ضالين قبل أن تأتيهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى والرسالة، وبعد أن جاءتهم، فبقوا على ضلالتهم ولم ينتفعوا بذلك، فمثلهم كمثل الكلب مذموم في حال إقباله وإدباره، فاسرد عليهم أيها النبي ما يعلمون أنه من المغيبات التي لا يعلمها إلا أهل الكتب الماضية، لعلهم يتفكرون فيحذروا أن يكونوا مثله، فإن الله أعلمهم بصفة محمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته، لعلهم يتفكرون في مصير الكاذب الغاوي الضال، فيؤمنون إيمانا صحيحا بالله وبكتبه ورسله.
لقد ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، وقبح فعلهم أشد القبح لإعراضهم عن النظر في آيات الله، إنهم بهذا الإعراض كانوا ظالمين أنفسهم بالتكذيب، فما ظلمهم الله، ولكن كانوا هم الظالمين أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهدى وطاعة المولى عز وجل.
حقا، إن موقف المعرضين عن آيات الله بترك الإيمان والعمل الصالح موقف يستدعي العجب والتأمل، فإنهم تركوا ما يدعو إليه العقل الرشيد، وتقتضيه مصلحة الإنسان، وإذا كان وضع الرافض أو المعارض لا يستند إلى منطق ولا إلى وعي، كان خاسرا منهزما في الحياة، ومضيعا على نفسه فرصة النجاة والسعادة. قال الله تعالى:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)[الكهف: 18/ 57] .