الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيا أيها المؤمنون، اذكروا نعم الله الكثيرة عليكم، بعد التزام التقوى، ومن أعظم تلك النعم أن الله تعالى حمى نبيّكم من فتك الأعداء، وصانكم من القتل حيث كنتم قلة، وأعداؤكم كثرة وقوة، فمدّوا إليكم وإلى نبيّكم أيديهم وألسنتهم بالسوء، ولكن الله أيّد رسوله ونصر دينه وأتم نوره، وكفاكم الشّر والعدوان في أمر بني النضير وفي هزيمة الأحزاب في غزوة الخندق وغيرها، فاتخذوا من تقوى الله وحده عدة وحصنا، تنفعكم وتحميكم من الفتن والشرور وعذاب الله، وتوكلوا على الله وحده حق التوكل، بعد اتّخاذ الأسباب الدنيوية الواقية من السوء، فمن اتّقى الله وتوكّل عليه، حماه من شر الناس وعصمه، وكفاه الله ما أهمه، ولا تخشوا الأعداء ولا يغرنكم كيدهم وتفننهم في أساليب الخراب والدمار، فالله معكم وناصركم إن كنتم مؤمنين.
نقض أهل الكتاب المواثيق والعهود الدينية
إن الوفاء بالعهود الدينية وتنفيذ الواجبات الإلهية سبب لتكفير السيئات ودخول الجنات، والظفر برضوان الله تعالى لأنه دليل الإيمان الصحيح وصدق التّدين وقوة الوازع الديني، والإخلال بهذه العهود مؤد للعنة الإلهية والطرد من رحمة الله، وقسوة القلوب وجمود النفوس، ونشوب الخصومات والعداوات وإيقاع البغضاء بين خائني العهد في الدنيا، والجزاء الأليم في نار جهنم في عالم الآخرة.
قال الله تعالى مبيّنا هذه الظواهر بين أهل الكتاب ليتّعظ بها المسلمون وغيرهم:
[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 14]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
«1» «2»
(1) النقيب: كبير القوم المتكفل بالوفاء بالعهد والذي يعنى بشؤون قومه ورعاية مصالحهم.
(2)
عزرتموهم:
نصرتموهم ومنعتم عنهم الأعداء.
«1» «2» «3» «4» «5» [المائدة: 5/ 12- 14] .
يخبر الله تعالى في هذه الآيات عن نقض الإسرائيليين مواثيق الله تعالى، فلقد أخذ الله العهود والمواثيق على بني إسرائيل بواسطة نبيّهم موسى عليه السلام، ليعملن بالتوراة، وأمرناه أن يختار اثني عشر نقيبا منهم، يتولون شؤون الأسباط (ذرية يعقوب) ويرعونهم، ويتحسسون أخبار أعدائهم ليقاتلوهم، فخان عشرة منهم العهد، وبقي اثنان، وأخبر الله على لسان موسى: أني مؤيّدكم وناصركم على عدوكم، ومطّلع عليكم ومجازيكم على أعمالكم.
ومضمون الميثاق أو العهد الإلهي الشامل: لئن أقمتم الصلاة بشروطها وأدّيتموها أداء كاملا تامّا، وآتيتم الزكاة للمستحقّين وهو شيء من المال كان مفروضا عليهم، وآمنتم إيمانا صادقا برسلي وناصرتموهم، وأقرضتم القرض الحسن من غير ربا ولا فائدة، لأكفرن عنكم سيئاتكم، ولأدخلنكم جنات تجري من تحت غرفها وبساتينها الأنهار، فمن جحد منكم شيئا من هذه الأوامر، وخالف مقتضى الميثاق بعد عقده
(1) إقراضا بطيب النفس.
(2)
يغيرونه أو يؤولونه بالباطل. [.....]
(3)
تركوا نصيبا وافيا.
(4)
خيانة وغدر.
(5)
أوقعنا وهيّجنا.
وتوكيده، فقد أخطأ الطريق الواضح المستقيم الذي هو الدين المشروع من الله، وعدل عن الهدى إلى الضلال.
وبسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذناه عليهم، أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ورحمة الله، وغضبنا عليهم، وجعلنا قلوبهم غليظة قاسية شديدة، لا تقبل الحق ولا تتعظ بموعظة، وفسدت أفهامهم وساء تصرفهم في آيات الله، وتأوّلوا كلام الله على غير وجهه الصحيح وحرّفوه وبدّلوه بالتقديم والتأخير والزيادة والنقص، ونسوا نصيبا مهمّا مما أمروا به في كتابهم، وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وتركوا العمل به، رغبة عنه، مما يدلّ على سوء فعلهم بأنفسهم، ولا تزال أيها النّبي في مستقبل الزمان تطّلع على خيانات متكررة منهم، إلا قليلا منهم ممن آمن، وحسن إيمانه كعبد الله بن سلام وأصحابه.
فاعف واصفح عما صدر منهم من إساءات، وعاملهم بالإحسان، إن الله يحب المحسنين ويثيبهم على إحسانهم، والعفو دليل النصر والظفر.
وأخذ الله أيضا من الذين قالوا: إنا نصارى ميثاقهم على مؤازرة النّبي محمد صلى الله عليه وسلم ومناصرته والإيمان برسالته، ففعلوا كما فعل اليهود قبلهم، وتركوا العمل بأصول دينهم، ونسوا نصيبا مهمّا من تعاليمهم، فكان جزاؤهم إيقاع العداوة والبغضاء بين صفوفهم، فصاروا فرقا متعادين وفئات مختلفين، وستظل العداوة بينهم مستمرة لازمة إلى يوم القيامة، وسوف يخبرهم الله بما صنعوا، ويجازيهم على ما اقترفوا بقدر ما يستحقون في عالم الآخرة.
وهذا وعيد واضح توعّدهم الله بعقاب الآخرة، وتوبيخ متقدم للعذاب، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار.