الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأوحى الله إلى موسى وأمره بإلقاء عصاه، فكانت ثعبانا ظاهرا، وعظم حتى كان كالجبل، فإذا هي تبتلع وتزدرد ما ألقوه وموهوا به أنه حق، وهو باطل، ثم رجعت بعد ذلك عصا. فظهر الحق كالشمس، وفسد ما كان السحرة يعملون، من الحيل والتخييل، وذهب تأثيره، وأدركوا أن فعل موسى فوق السحر وغلب السحرة في ذلك الجمع العظيم بأمر الله وقدرته، وانقلب فرعون وقومه صاغرين أذلة، بما لحقهم من عار الهزيمة والخيبة والخذلان. وعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر، فخروا سجدا مؤمنين بالله ورسوله. وقالوا: آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون، لأن الحق بهرهم، وتيقنوا من نبوة موسى عليه السلام بقلوبهم، وتلاشت من أذهانهم فكرة ربوبية فرعون وتبددت أوهام الجهال من أنه رب الناس، وكان هارون أخو موسى أسنّ منه بثلاث سنين.
تهديد فرعون للسحرة
بعد أن تغلب موسى على سحرة فرعون، وظهر الحق واندحر الباطل، آمن السحرة بالله رب العالمين، وكان إيمانهم قويا راسخا كالجبال، واتكلوا على الله، ووثقوا بما عنده، ولكن فرعون اتهمهم بالتواطؤ مع موسى، وهددهم بتقطيع الأيدي والأرجل والقتل والصلب على جذوع النخل، فما لان مؤمنو السحرة للتهديد والوعيد، ولم يبالوا بالتعذيب، لأنهم آمنوا إيمانا صلبا ملأ نفوسهم برهبة الله والخوف من عذابه يوم القيامة. وصف الله تعالى موقف فرعون من السحرة، فقال:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 126]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَاّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)
«1» [الأعراف: 7/ 123- 126] .
لقد أسقط في يد فرعون، وطاش صوابه، فلجأ إلى التهديد والتخويف والوعيد وجعل ذنب السحرة المبادرة إلى الإيمان بإله غيره من دون إذن منه ولا رضا، فقال لهم: كيف آمنتم برسالة موسى واتبعتموه قبل أن آذن لكم؟ وإن ما تظاهرتم به أولا بعداوة موسى، والاعتداد بالسحر ثانيا، وإرادة الغلبة لموسى ثالثا، هذا كله مكر خفي منكم وتدبير خبيث وتواطؤ مع موسى قبل المباراة، لقد دبرتم العمل بالمدينة، وتآمرتم لإخراج الناس من البلد، فسوف تعلمون عاقبة ما أفعل بكم. إن فرعون يعلم يقينا أن الاتهام بالمكر والمؤامرة غير صحيح، فهو الذي أرسل جنوده في سائر أقاليم مصر، ووعدهم بالعطاء، ولم يلتقوا بموسى، ولم يعرف موسى أحدا منهم، ولا رآه ولا اجتمع به.
وعقابي لكم: تقطيع الأيدي والأرجل، ثم القتل والصلب على جذوع النخل، والتنكيل بأشد العذاب والعقاب، حتى تكونوا عبرة للمعتبر، والقصد من هذا التهديد حماية مزاعمه بادعاء الألوهية، وسد الباب أمام الناس الذين يريدون الإيمان بالله تعالى، وترك الولاء والعبودية لفرعون.
ولكن فريق السحرة لم يأبهوا بالتهديد والوعيد، لثقتهم بالله، وقالوا: إن الأمر كله لله، وإننا راجعون إلى ربنا مهما طال العمر، وما تنقم منا وما تكره من أفعالنا إلا أننا آمنا بالله ورسوله لما ظهرت الآيات والمعجزة، وعرف الحق، وتبدد الباطل.
وهذا إعلان لقرار لا رجعة فيه، وكأنهم يقولون: لا أمل لنا في رجوعنا عن الإيمان بالله ربا واحدا لا شريك له.
(1) ما تكره وما تعيب منا.
ربنا هب لنا صبرا فسيحا واسعا، وثبّتنا على دينك وشرعك، واغمرنا بالصبر حتى يفيض علينا كما يغمر الماء الأشياء، وأمتنا مسلمين خاضعين لأوامرك، منقادين خاضعين لعظمتك، ثابتين على الدين الحق: دين الإسلام متابعين لنبيك موسى عليه السلام.
والظاهر أن فرعون نفّذ تهديده ووعيده فعلا، لقوله تعالى في بداية القصة:
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ قال ابن ابن عباس رضي الله عنهما: فرعون أول من صلب وقطع من خلاف. وقال ابن عباس وغيره في السحرة: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وأما التوعد فلجميعهم. وقال السحرة لفرعون في آية أخرى:
فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) [طه:
20/ 72- 75] .
وإذا كان الإيمان بالدين الحق والصبر على الشدائد من خلق الله تعالى، كما يقول أهل السنة، فإن اتجاه إرادة الإنسان للأخذ بهما، والاستعانة بالله للثبات على الإسلام، دليل على استحقاق العبد الثواب على ما اتجهت إليه إرادته، إذ لو كان الإيمان مجرد منحة من الله، لما كان هناك داع لإثابة المؤمن، وتعذيب الكافر.
وإيمان السحرة وإعلان إسلامهم بجرأة وصراحة وسرعة يدل على أن الإنسان إذا تجرد عن هواه، وأذعن للعقل والفكر السليم، بادر إلى الإيمان عند ظهور الأدلة عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما آمنت السحرة، اتبع موسى ست مائة ألف من بني إسرائيل. وقال مقاتل: مكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عاما أو نحوه يريهم الآيات.