الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل ذلك، فنصح وأرشد، وزجر وأوعد، وتخلص من العجل الذي اتخذ إلها في غيبته، وعاتب أخاه هارون عتابا شديدا على سلبيته- بحسب ظنه- أو موقفه من مسألة العجل. قال الله تعالى واصفا هذه الأحداث:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 150 الى 151]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
«1» «2» «3» [الأعراف: 7/ 150- 151] .
كان اتخاذ العجل إلها في بني إسرائيل صدمة عنيفة لموسى عليه السلام، فحينما رجع من المناجاة، وقرب من محلة بني إسرائيل، سمع أصواتهم، فقال: هذه أصوات قوم لاهين، فلما تحقق عكوفهم على عبادة العجل، داخله الغضب والأسف، وألقى الألواح (ألواح التوراة) . بل إنه حينما أخبره الله تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل، رجع وهو غاضب، والأسف قد يكون بمعنى الغضب الشديد، وأكثر ما يكون بمعنى الحزن، والمعنيان متوافران هنا.
كان موسى الشديد الشكيمة القوي العزيمة في فهم التوحيد الخالص ذا موقف مغاير لأخيه هارون الذي كان ليّن العريكة، غير حازم في أمره، فقال موسى للقوم:
أسابقتم قضاء ربكم واستعجلتم إتياني قبل الوقت الذي قدر به. أي فلم أرجع إليكم عند تمام الثلاثين ليلة، فتحدثتم بموتي وغيرتم عقيدتكم، كما غيرت الأمم بعد موت أنبيائها، وطرح موسى ألواح التوراة من يده فتكسرت، لما اعتراه من فرط الدهشة وشدة الضجر عند استماعه حديث العجل، غضبا لله، وحمية لدينه، وأخذ بشعر أخيه يجره إليه بذؤابته، لشدة ما استفزه من الأمر، وذهب بفطنته، وظنا بأخيه أنه
(1) شديد الغضب حزينا.
(2)
أسبقتم بعبادة العجل.
(3)
لا تسرهم بمكروه بي.
قصر في خلافته، وفرط في كفّ القوم عن عبادة العجل، وعلى الخليفة اتباع سيرة سلفه الذي استخلفه، كما جاء في آية أخرى: قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)[طه: 20/ 92- 93] . أي أن تتبعني إلى جبل الطور.
فأجابه هارون قائلا: يا بن أمي، لا تتعجل بلومي وتوبيخي واتهامي بالتقصير في واجبي نحو الله تعالى، فإني أنكرت عليهم، ونصحتهم، ولكن القوم استضعفوني فوجدوني فردا واحدا، ولم يلتفتوا إلى كلامي، بل قاربوا أن يقتلوني، فلا تشمت بي الأعداء بالاستهانة بي والإساءة إلي، ولا تجعلني بظنك في عداد الظالمين أنفسهم، أي الذين عبدوا العجل، مع براءتي منهم ومن ظلمهم. ولما اعتذر هارون مستعطفا قلب أخيه موسى، قال موسى: رب اغفر لي ما قد فرط مني من قول أو فعل فيهما غلظة وجفوة لأخي، واغفر لأخي ما قد فرط أثناء خلافته عني، من مؤاخذة القوم على ما ارتكبوه من جرم وإثم، وأدخلنا في رحمتك الواسعة، فأنت أرحم الراحمين، أي اجعل رحمتك ملازمة لنا، لا تفارقنا في الدنيا والآخرة.
دعا موسى عليه السلام بهذا الدعاء لاسترضاء أخيه، وإظهار رضاه عنه أمام الشامتين، فلا يشمتون به، واستغفر ربه من عجلته في إلقاء الألواح. ودل اعتذار هارون أنه بريء من جريمة اتخاذ العجل إلها، وأنه لم يقصر في نصحهم والإنكار عليهم، وقد غفر الله له. وهذا تصريح مخالف لما في التوراة الحالية أن هارون هو الذي صنع العجل لهم، واتخذه إلها.
وفي الجملة: لا يمكن بحال أن يصدر من نبي شيء من التقصير في أداء واجبه في تبليغ العقيدة والرسالة، ومقاومة كل ما يعارضهما، وكان موسى وأخوه هارون نبيين. فكل منهما على حق فيما صدر منه، أما هارون فأنكر على القوم اتخاذ العجل إلها إنكارا شديدا، وأما موسى فاشتد أكثر منه في الإنكار وإظهار الغضب، وتصفية