الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالمشركين: هو ما يلقون منهم من الأذى، وابتلاء المشركين بالمؤمنين: هو أن يرى أشراف المشركين مدى تعظيم الله لقوم لا سمعة ولا مكانة لهم، وكانت عاقبة هذا الاختبار: أن قال المشركون: أهؤلاء الضعفاء الذين منّ الله عليهم من بيننا بالخير والتقدم؟ فردّ الله عليهم: بأن الله أعلم بمن يؤمن ويشكر الله، فيوفّقه للإيمان، وهو سبحانه أعلم بمن يصمّم على الكفر، فيخذله ويحجب عنه اللطف والتوفيق.
وقد نزلت آية النّهي عن طرد الضعفاء من مجلس النّبي في ستة أنفار كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، طالب المشركون بطردهم من مجلس النّبي، قائلين:
اطردهم، فإنا نستحي أن نكون تبعا لك كهؤلاء، فنهى الله نبيّه عن ذلك، إعلاء لدرجة الإيمان، وإدناء لمرتبة الشّرك أو الكفر.
مظاهر الرّحمة الإلهيّة
لا يستغني الإنسان عن رحمة الله طرفة عين، فإن وجوده وبقاءه، وسعادته وشقاءه، وأفراحه وأحزانه وغير ذلك مرهون برحمة الله وفضله، وإحسانه ولطفه، فالله لطيف رحيم بعباده، ويزيد اللطف بعبّاده، يمنح لهم الخير، ويحميهم من الشّر ما داموا على جادة الاستقامة قائمين، وبهدي الله عاملين، بل إنه يرحم العصاة والكافرين به، لأن رحمته سبقت غضبه، ولولا الرّحمة الإلهية ما بقي في هذا العالم كافر ولا مشرك. قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 55]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
«1» [الأنعام: 6/ 54- 55] .
(1) قضى وأوجب على نفسه تفضّلا منه ورحمة.
نزلت هاتان الآيتان- في رأي جمهور المفسّرين- في القوم الذين طلب المشركون طردهم من مجلس النّبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنوا ويتفرّدوا بالجلوس، فنهى الله عز وجل عن طردهم، وضمّ إلى ذلك النهي الأمر بأن يسلّم النّبي صلى الله عليه وسلم عليهم ويؤنسهم.
قال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم عن طردهم، فكان إذا رآهم النّبي صلى الله عليه وسلم بدأهم بالسلام، وقال:«الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسّلام» .
وقال الفضيل بن عياض: قال قوم للنّبي صلى الله عليه وسلم: إنا قد أصبنا ذنوبا فاستغفر لنا، فأعرض عنهم، فنزلت الآية: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا.
والمعنى: وإذا جاءك أيها الرسول الذين يؤمنون بالله ورسله، ويصدقون بكتبه تصديقا قلبيّا وعمليّا، ويؤمنون بآيات القرآن وعلامات النّبوة كلها، فقل لهم: أمان لكم من عذاب الله في الدنيا والآخرة لأن الله سبحانه أوجب على نفسه الكريمة الرحمة بعباده، تفضّلا منه وإحسانا وامتنانا، فهو واسع الفضل والمغفرة، يغفر الذنوب بعد التوبة، ويعفو عن السّيئات بالحسنات.
جاء في الصحيحين وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي» .
فمن ارتكب منكم ذنبا أو خطيئة بجهالة كغضب شديد، أو شهوة جامحة، وخفة عارمة، وطيش بيّن، ثم تاب إلى الله وندم على ذلك الذنب، وصمّم على عدم العودة إلى المعصية في المستقبل، وأصلح عمله، فالله يغفر له ذنبه، لأنه واسع المغفرة والرحمة، ونظير هذه الآية الدّالة على غفران السيئات الواقعة عن جهالة قوله تعالى:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النّساء: 4/ 17] . قال بعض السّلف: «كل من عصى الله فهو جاهل» وقال مجاهد: «من الجهالة:
ألا يعلم حلالا من حرام، ومن جهالته أن يركب الأمر» . والجهل الذي هو ضدّ العلم يعذر به المرء في الذنوب الخفيفة، ولا يعذر به في الذنوب الكبائر كالشّرك بالله وعقوق الوالدين وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم.
والتّوبة: الرجوع، وصحتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في الشيء الذي تيب منه، والإصلاح يكون بشروط أربعة: النّدم الحقيقي على الذنب، والعزم على عدم العودة إليه في المستقبل، وردّ المظالم إلى أهلها، وإتباعها بالعمل الصالح. وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
ثم وضع القرآن الكريم قاعدة عامة في البيان: وهي أنه سبحانه يبين لعباده بيانا بديعا كل ما يتعلق بدلائل التوحيد والنّبوة والقضاء والقدر، ومثل ذلك التبيان والتفصيل يفصل الآيات كلها، ويوضح حقائق الشريعة، ليهتدي بها العقلاء، ويعرف الحق من الباطل، ويتّضح للمؤمنين طريق المجرمين، وإذا اتّضح سبيلهم كان كل ما عداه وما خالفه هو سبيل المؤمنين، لأنه متى استبانت طريقة المجرمين المنحرفين عن الهدي الإلهي، فقد استبانت طريقة أهل الحق والإيمان أيضا لا محالة، إذ لا وسيط بين الحق والباطل.
وهل يتأمل الناس من ربّهم غير البيان والتفصيل، فذلك غاية الفضل والإحسان، ومنتهى الرحمة والإعذار؟ ولا يبقى أمام الإنسان بما أوتي من عقل وخبرة وترجيح للمصلحة على المفسدة، إلا أن يختار طريق الخير ويتجنّب سبيل الشّر لأن فعل الخير أمان وسلام، وعافية واطمئنان، وفعل الشّر ضلال وخسران.