الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعرضت عنهم فلن يلحقك شيء من ضررهم وعداوتهم لأن الله حافظك وعاصمك من الناس، وإن حكمت بينهم في قضية، فاحكم بينهم بالعدل الذي أمرك الله به، وهو شريعة القرآن، إن الله يحبّ العادلين ويرضى عنهم. وتخيير الحكام باق، وهو الأظهر إن شاء الله كما قال ابن عطية.
وكيف يحكّمونك أيها النّبي في قضية مثل الزّانيين؟ وعندهم التوراة فيها شريعتهم وحكم الله، ثم يتولون ويعرضون عن حكمك بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين أبدا.
أجل! إن التّلاعب بأحكام الله وشرائعه ومحاولة التهرّب منها لا تفيد شيئا، فإن الحقائق ناصعة، ومن تنكّر للحقيقة تعرّض للخزي والهوان في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة، وقانا الله تعالى من الانحراف وألهمنا الاستقامة على شرعه ودينه.
تشريع القصاص
تميّز القرآن الكريم بالحيدة والموضوعية وإظهار الحقائق في بيان الأحكام التشريعية فلا تعصّب فيه لشريعة أو اتّباعها على حساب شريعة أخرى لأن مصدر التشريع الإلهي واحد وهو الله عز وجل، فكما أن القرآن المجيد نور وهداية دائمة، كذلك التوراة والإنجيل هدى ونور، وكما أن القصاص أو عقوبة الإعدام أمر مقرر في الشريعة الإسلامية، فهو كذلك مقرر واجب في الشريعة الموسوية، وإنكار ذلك كفر وظلم وفسق.
قال الله تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 44 الى 47]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
«1» «2» «3»
(1) انقادوا لحكم التوراة. [.....]
(2)
العلماء: الفقهاء والعبّاد.
(3)
علماء اليهود.
«1» «2» [المائدة: 5/ 44- 47] .
نزلت هذه الآيات في اليهود الذين بدّلوا حكم التوراة في الرجم، فجعلوا مكانه الجلد والتسخيم، أي تسويد الوجه وطلاءه.
والمعنى العام: إنا أنزلنا التوراة على موسى عليه السلام، مشتملة على الهدى والنور، والهدى: الإرشاد في المعتقدات والشرائع، والنور: ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها. وهي قانون يحكم بها الأنبياء المخلصون لله من عهد موسى بن عمران عليه السلام إلى مدة مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم، ويحكم بها أيضا الرّبانيّون، وهم العلماء الحكماء الذين يسوسون الناس بالعلم، ويحكم بها الأحبار: وهم العلماء رجال الدين، بسبب ما استحفظوا على كتاب الله شهداء ورقباء وحفاظا يحمونه من التغيير والتحريف.
وإذا كان الحال كما ذكر فلا تخافوا الناس أيها الأحبار، ولا تكتموا الحق، من صفة النّبي والبشارة به، طمعا في نفع دنيوي عاجل، وخافوا الله وحده، فلا تحرّفوا كتابه، خوفا من أحد أو مجاملة لأحد، فتسقطوا الحدود الواجبة عليهم، ولا تستبدلوا بآياتي وأحكامي منفعة قليلة عاجلة تأخذونها من الناس، من رشوة أو طمع
(1) أي في التوراة.
(2)
أتبعنا على آثار الأنبياء.
في مال أو جاه أو رضا الآخرين، فمتاع الدنيا قليل، والرشوة سحت حرام لا بقاء لها ولا بركة فيها، واعلموا أيها العلماء أن من لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق.
واعلموا أيها الأحبار العلماء أننا أنزلنا التوراة، وفرضنا فيها على بني إسرائيل عقوبة القصاص من القتلة، على أساس المساواة والمماثلة، فتقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويجدع الأنف بالأنف، وتقطع الأذن بالأذن، ويقلع السّن بالسّن، ويجري القصاص أي التماثل في الجروح والاعتداءات على الأعضاء. لكن من عفا عن الجاني وتصدق بحقه في القصاص، فالتّصدق كفارة له، يستر الله بها ذنوبه ويعفو عنه، والعفو أفضل، قال الله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة: 2/ 237] . ومن أعرض عن تشريع القصاص القائم على العدل والمساواة بين الناس، ولم يحكم به في القضاء، فأولئك هم الظالمون أنفسهم وغيرهم، الذين يتعدون حدود الله، ويضعون الشيء في غير موضعه.
ثم ذكر الله تعالى في قرآنه أن التوراة شريعة أنبياء بني إسرائيل، فقال: وأتبعنا مجيء النّبيين وذهابهم والسّير على آثارهم بعيسى ابن مريم عليه السلام، فهو آخر نبي لبني إسرائيل، مصدّقا للتّوراة التي تقدمته قولا وعملا، أي مقرّا بأنه كتاب من عند الله وأنه حق واجب العمل به، يعمل بها فيما لم يغاير الإنجيل، وأخبر الله تعالى أنه أعطى عيسى الإنجيل فيه الهدى، أي الإرشاد والدعوة إلى توحيد الله وإحياء أحكامه وشرائعه، وفيه النّور: وهو أن ما فيه مما يستضاء به، وأن الإنجيل مصدق ومؤيد لما جاء في التوراة، وهو أيضا سبب للاهتداء به وإرشاد الناس في المستقبل لما يأتي بعد الإنجيل وهو القرآن، ونبي الإسلام، والإنجيل كذلك موعظة حسنة للمتقين لاشتماله على النصائح والإرشادات البليغة، وخصّ المتقون بالذكر لأنهم المقصودون به في